يوماً ما كان تجريدياً. لا يزال حاضره يذكر بماضيه التجريدي. لقد سحره غموض اللحظة الجمالية التي تعصى على الوصف. أسره مرورها أمامه خطفاً كما لو أنها من نتاج ذاكرته الغاصة بالمشاهد العاطفية. غير أنه لم يكن بارداً في تجريدياته. كانت حرارة منشأه تهبه لغة مختلفة هي ما صارت جسراً يصل بينه، وقد تعلم الرسم من جديد في إسبانيا في بداية ثمانينات القرن الماضي وبين مواقع طفولته وصباه وهبوط الإلهام الجمالي لأول مرة في الخرطوم. الخيط الذي لم ينقطع بين الفضائين رممه راشد ذياب (1957) بمئات اللوحات التي أضفت على التجريد طابعاً أفريقيا. وهو ما مهد الطريق أمامه لاختراع عالمه الذي هو مزيج من مشاهد واقعية ومن طريقة نظر ترتفع بذلك الواقع إلى مستوى حنوه الجمالي. كان الجمال بالنسبة له وهو الذي رضع سحر الحكايات الطافحة بالألوان الحارة نوعاً، من العبادة. كان الرسم بالنسبة له وهو الذي مارس النقد في مرحلة من حياته يقع في أن تكتب سطراً غائباً وتسلمه إلى القدر ليحلق به بعيداً من أجل أن يضمه إلى عبارة استفهامية، هي في حقيقتها منجم لكل شغف جمالي غامض. كان راشد في مهجره الإسباني، وقد نجح في أن يحقق تطلعاته الأكاديمية ينتظر لحظة، يكون في إمكانه فيها أن يعكف على دوزنة إيقاع ذاته المتمردة في سياق روحي عرف كيف يحافظ عليه من غير أن تربكه فوضى النزعة العالمية التي كان يعيش تحولاتها وتقلبات مزاجها بضجر المقتلع من جذوره. أمنيته في أن يكون رساماً سودانياً بشروط ذلك الفضاء العالمي ما كان يمكن أن تتحقق من غير عودته إلى السودان، مستقراً أخيراً. وهذا ما أنجزه أخيراً حين أقام مركزه الفني الذي يحمل اسمه. لقد بنى الرسام متحفه الشخصي بنفسه. عودته إلى بلده جعلته يتوقف متأملاً تلك النضارة التي لا تزال تقيم في أعماق الأصوات والأشياء والصور والروائح الحية التي كانت إلى وقت قريب تقيم في أعماقه فإذا به يجدها متجسدة في الواقع. شيء من تجربته في الحياة كان يعكس تجربته في الفن وقد عرف كيف يتحكم بتلك التجربة بما يخدم عاطفته. تعلم ذياب من التجريد ومن تقنية الحفر الطباعي أيضاً ما يجعله قادراً على أن يمسك بما يختفي من بريق الجمال الصامت. المساحات الفارغة التي توحي بامتلاء غنائي، الخطوط التي تقع صدفة كما لو أنها تؤسس لحوار بين فضائين وأخيراً الضربة الواحدة التي لا تخطئ مكانها. وهي العناصر التي نجت بالمشاهد التي يرسمها من الوصف الأدبي، من التعبير الذي تجره الأفكار إلى مناطق لغوية يغلب عليها طابع الحذلقة البلاغية والثرثرة الفائضة. لم يكن لدى راشد وهو يرسم ما يوضحه. لم يكن لديه ما يفسره أو يجد له معنى. كانت فكرته تلاحق طريقة خاصة في النظر إلى مشاهد يومية، مشاهد تقع من حولنا من غير أن نقوى على التماس بتوترها الجمالي. كان ذياب ماهراً وعميقاً في التقاط مواقع الجمال في حياة الناس العاديين، السودانيين مثله في أماكن تجمعاتهم. تجريد لم يقطع صلته بالواقع. غير أنه الواقع الذي يجسد حياة تقع، من غير أن تترك أثراً صاخباً. تمر لتختفي وهو ما يجعل تفاصيلها أكثر قرباً من التدوين الكتابي من التجربة البصرية. يرسم ذياب ليتذكر وهو في الوقت نفسه يتذكر ليرسم. ستكون رسومه بمثابة يومياته البصرية، من خلالها يؤسس لفردوسه المستعاد. هناك حيث يقيم سودانه، كما حلمه وكما يريده، وكما سيتركه خالداً في رسومه. لن يجرؤ سوداني على سؤال ذياب «أين هم السودانيون، السودانيات اللواتي أعرفهن؟» فلا وجوه ولا ملامح ولا سير شخصية، بكل ما تنطوي عليه تلك السير المعاصرة من عذاب وألم وقسوة وعزل ومزاج كئيب. هذه بلاد على رغم ما عاشته ولا تزال تعيشه من أوضاع استثنائية ترجح السلطة على العدالة لا يزال، في إمكانها أن تنتج جمالاً يختفي في اللحظة التي يظهر فيها. لن تخطئ العين طريقها إلى المعنى الخفي الذي تتغنج به رسوم راشد ذياب. هؤلاء نسوة سودانيات، يعبر تأثيرهن الجمالي حدود التفاصيل الشخصية ليكون جزءاً من موسيقى الضربة الواحدة التي تجيدها وتفخر بها فرشاة هذا الرسام. يرسم ذياب بلاده كما لو أنه يعيد اكتشافها في كل لحظة رسم.