في معرض نقده السياسي الحاد للحرب على العراق، يشير «المخطط» الاستراتيجي ريتشارد هاس إلى أن اميركا تربح دائماً الحروب التي تنخرط فيها رغماً عنها، كالحرب العالمية الثانية، وتفشل في الحروب التي تختارها، من نمط الحرب في فييتنام والعراق. لكن هذا «المخطط» يعيد إنتاج «الفشل» في «التحليل» أيضاً! وذلك لأن محاولة خلط «زيت» الايديولوجيا مع «طحين» الوقائع لن ينتج سوى «طبخة» فاسدة. فالسياق التاريخي «للحروب»، وبغض النظر عن تقسيماتها «المسبقة الصنع» يجزم بالمسؤولية الكاملة لدى القادة والتي تتلخص في معرفة «تضاريس» الحرب الاجتماعية لا في «الأوهام» المدرسية أو في «التصورات» التجريدية التي تعشعش في بلد «المنشأ» أكثر من البلد الذي يتعرض للحرب والاحتلال! «الوثيقة» التي طرحتها «الخارجية» الاميركية في أيار (مايو) 2002 كانت تحت اشراف «كولن باول» وقد أكدت فقراتها بكل وضوح أن «الايديولوجيا» التي تبنتها الوزارة بخصوص الوضع «القادم» في العراق لها صلة ما مع فكرة إعادة «إعمار العراق» والشروع في بناء البلد على الأسس المادية التي اعتمدت في نماذج سابقة في تكرار تشييد «الامة – الدولة» ضمن خصوصية نشوء العراق الحديث، وذلك بالاعتماد على «جوهر» ودور «الطبقة الوسطى» التي عانت من التفكك والانهيار وحتى الملاحقة السياسية البوليسية من قبل «البونابرتية» العسكرية السابقة. ولقد كان من أكثر المتحمسين والمساهمين فيها الديبلوماسي ريتشارد مورفي والخبير الأخصائي في العلاقات الاميركية – العربية. ويقول هو إن إهمال الوثيقة كان «ايديولوجيا» محضاً وليس بسبب صفة «الحرب» الانتقائية! وإذا حاولنا «الاستقلال» الموقت عن الأعذار «الايديولوجية» التي يقدمها هاس سنصاب بالخيبة إذا ما قرأنا الخبر الاميركي «الرسمي» حول زيارة مساعد الخارجية ويليام بيرنز للعراق مؤخراً حيث أجرى محادثات مباشرة مع قادة «العملية السياسية»: «أكد ضرورة اختيار أطراف العملية السياسية طريق الحوار البناء. وأن تكون لديهم الارادة اللازمة للوصول إلى تفاهمات مقبولة في إطار إنجاح المؤتمر الوطني وجعله مناسبة لرسم الخطوط العريضة لادارة البلاد وترسيخ الشراكة والتوافق الوطني. وأبدى أخيراً رغبة بلاده بتفعيل دور العراق الاقليمي لدعم فرص الأمن والاستقرار»! هل يوجد وضوح أدق في هذا التناقض الصارخ بين المفهوم العام «للداخل» العراقي حول الشراكة والاستقرار والمفهوم الخاص لدور العراق في «الخارج» حول الأمن والاستقرار الاقليمي. فهل من المعقول ونحن نشاهد آثار الحرب والاحتلال و «الانسحاب»! أن يراد لنا أن نقتنع بأن تجاوز وثيقة «الخارجية» كان جزءاً من حرب «الاختيار» التي اكتشفتها الادارة السابقة وأن الدور «الفاعل» للعراق هو الجزء المركزي لاستراتيجية إدارة اوباما. إن العراق الآن مقبل على «خيارات» ملموسة وليس «انحيازات» مجبرة. وهذه مهمات «سياسية» مدروسة وليست أوهام «ايديولوجية» مدرسية تخضع لتسويغات اميركية مكابرة ترفض الاقرار بحقيقة الفشل ونتائجه. إنه الربط المبدع بين «النظام السياسي» ومندوحة وحدة العراق الادارية التي تسببت اميركا في الاضرار بها متصورة أن اعادة تشكيل «مكعب روبيك» العراقي بطريقة مغايرة «للايديولوجيا» البريطانية التي انهارت تحت أقدام «البونابرتية» العسكرية في 1958 ستكون له حصانة متميزة أمام عواصف الاحتدامات السياسية الداخلية والخارجية، لا سيما أن اميركا في فهمها وتفاهمها مع «النخب» «المتوافرة» حالياً لم تكن أفضل أبداً من بريطانيا في درسها وتدريسها مع «الصفوة» الملكية المنقرضة. إن روح التقمص «التاريخي» في تشكيل الأحداث والبلدان والأمم لا يمكن أن يغفر لها في خضم عقابيل الخسائر المادية المستقرة أو الاحباطات الفكرية العابرة. ومن يتابع بحرص صور «المناكفات» بين «النخب» وتصريحاتهم النارية لن تكون له فرصة من النأي عن تشخيص الحالة العراقية الحاضرة بكونها أقرب إلى حكايات «ألف ليلة وليلة» وليس الاعتماد الكاذب على «العقد الاجتماعي» لروسو! * كاتب عراقي