قبل أيام نشرت صحيفة سعودية تقريراً يثير الحزن والاستياء عن مواطن سعودي في السبعينات من عمره، يسكن مع أسرته في مقبرة، موهمة القراء أنه لا يجد قوت يومه من شدة الفقر، تماماً كحال ساكني المقابر في دول عربية مجاورة، الذين تصورهم أفلام السينما، ثم طار بالخبر مخرج فني هاوٍ، وأنتج فيلماً قصيراً صامتاً عن الرجل، يصوره مع أطفاله وهم يجلسون بثياب رثة بين «الميتين»، وتم عرض الفيلم في موقع «يوتيوب» برسالة خاتمة غاية في التأثير، لتنهال ردود الأفعال من آلاف المشاهدين، وهم بين متعاطف وباكٍ ومتبرع ومسوق لنفسه «دعائياً»، تحت غطاء العمل الخيري، قبل أن تكشف وزارة الشؤون الاجتماعية أن ساكن المقبرة أوقع الجميع في مقلب، وأنه يوجد في ذلك المكان تحديداً لأنه يعمل «حارساً» لتلك المقبرة، بينما دخله الشهري يتجاوز 6200 ريال، كما أن السكن الذي يقطنه في أحد جوانب المقبرة سكن «مجاني» معد لهذا الغرض من أمانة الرياض، بل إنه فوق ذلك يتسلم معونات مقطوعة سنوياً من الضمان الاجتماعي، وآخر ما تقرر له منها مبلغ 18800 ريال للعام الحالي «1433ه». التقرير الذي «مقلب» القراء والمخرج المتحمس والمتعاطفين، بمن فيهم شخصية اجتماعية شهيرة، يمكن اعتباره أحدث وأطرف نموذج للاحتيال بالتسول عبر وسائل الاتصال الحديثة، ويثبت للمرة المليون أن التلاعب بمشاعر آلاف السعوديين وتحويلهم إلى صارخين وحانقين ولاعنين لكل الجهات المسؤولة وغير المسؤولة بات مسألة في غاية البساطة، ففي موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» مثلاً تجمع الآلاف في صفحة خصصت لفيلم «مقبرة» للصراخ، ووصف ما جاء فيه بأنه خزي وعار على المملكة «تماشياً مع موضة الخزي والعار»، للدرجة التي يُفهم منها أن على أمانة الرياض أن تفكر في تسليم حراس المقابر أجنحة ملكية في فنادق الهيلتون والفورسيزون حتى لا تسيء للبلاد والعباد. نعم لدينا مشكلة عويصة في قضية امتلاك السعوديين لمنازلهم، وأيضاً لدينا مئات الآلاف من الفقراء الذين يعيشون على صدقات أهل الخير، أو الجمعيات الخيرية، ولدينا من يسكنون في بيوت من الصفيح، ويستقبلون فصل الشتاء بثياب لا تقيهم برده أو أمراضه، لكن «الفذلكة»، وتزوير الحقائق، وتضليل الناس بنماذج «مزورة» لتسليط الضوء على هذه القضايا، أمر مرفوض، ويسيء للصحافة قبل غيرها، ويجب ألا تمر مثل هذه الفبركات من دون محاسبة، سواء كانت هذه المحاسبة للصحافية التي أعدت التقرير، من دون إلمام بالوضع الحقيقي للمواطن وأسرته، ومن دون حتى الاستفسار من جهة رسمية عن معاناته المفتعلة، أو لمنتج ومخرج الفيديو الذي «طار في العجة» - كما يُقال في اللهجة السعودية الدارجة - فلو أن أحداً ادعى أنه معوق وتسول في شوارع الرياض، أو انضم لعصابات مستأجري إشارات المرور، لتم القبض عليه من جهاز مكافحة التسول واقتيد للسجن، وهذا ما يجب أن يطبق على من يستغلون عواطف القراء والمتابعين عبر وسائل الاتصال الحديثة، إننا بحاجة لمكافحة عمليات استغلال القراء، ومتابعي الشبكات الاجتماعية في السعودية، هذا الاستغلال الذي يمارسه الباحثون عن بطولات ورقية أو الكترونية تنتهي بحفلات تصفيق ولطم في «تويتر» و«فيسبوك» و«يوتيوب» بكل أسف. [email protected] twitter | @Hani_AlDhahiry