بعد أن روى مديرو الإذاعات الجديدة والقديمة الوجه الآخر للحقيقة، الوجه الواقعي والعملي، هل تبدو الصورة إيجابية بيضاء؟ هل انتهى ما يقال عن المحتوى؟ هل اقتنعت بوجهة نظر النقاد الأكاديميين أو المستمعين المحبطين، أم بوجهة نظر مسؤولي الإذاعات؟ حتماً، لا يزال هناك كثير يقال عن المحتوى، مع أخذ مبررات الإذاعات في الاعتبار. لا يمكنك أن تميل كل الميل إلى المنتقدين، ولا تميل إلى الإذاعات. التجربة لها وعليها، والمحتوى ليس كل شيء (غداً نناقش الجانب الاستثماري، وما لوزارة الثقافة والإعلام في التجربة وما عليها). لكن ومن وجهة نظر مراقب، لهذه التجربة، عن قرب وعن مشاركة أحياناً، أجد أن الاختلاف بين النقاد والقيمين على هذه الإذاعات، اختلاف يتمأسس على أن «أدوات قياس النجاح... ليست عملة موحدة». وفي الوقت الذي يعيب فيه نقاد هذه التجربة سطحية المضمون والإذاعات، ربما يعاب عليهم هم أيضاً السطحية في تناول التجربة، فهم لا ينظرون إليها من كل الزوايا، ولا يغوصون فيها عميقاً. يكتفون بسماع شذرات من هنا وهناك، ويقومون بناء على «نظرة دونية» تجاه الترفيه بشكل عام، تنسى أن هذه الإذاعات تقوم على أكتاف شبان تنقصهم الخبرة، ولا بديل لهم. كما أن تلك العدائية في تقويم التجربة واعتبارها فاشلة فيها ولو إلماح او إشارة الى أنهم يملكون الخبرة لتطويرها والارتقاء بها. وهذا أحياناً يتوافق مع ما يذهب اليه بعض الإعلاميين في أعمدتهم الصحافية اليومية، التي ينصبون نفسهم فيها عالمين بكل شيء: الأدب والثقافة والإعلام والإذاعة والتلفزيون والقضايا الاجتماعية السياسية. هذه «العلمية بكل شيء» المفرطة، تنتقل كعدوى إلى المذيعين في الإذاعات على سبيل المثال، وتجعلهم أحياناً يستسهلون نقد أي شيء في المجتمع، من دون الإلمام بحيثياته ووجوه الحقيقة فيه. إن واحدة من المشكلات هي أن معظم من ينتقد التجربة ويصفها بالتكرار لا يعلم أن وزارة الثقافة والاعلام على سبيل المثال اشترطت على الاذاعات عدم التخصص، اي اشترطت ان تكون عامة. وهذا الشرط يهدد الوصول الى الشباب وكل الفئات ويفرض التكرار. لكن القيمين على الإذاعات فطنوا إلى ذلك واحتالوا عليه. ربما لم يكن ذلك الاحتيال مقصوداً، وجاء بظروفه. وكمثال عملي نجد أن اذاعة «ألف ألف اف ام» قدمت على أن عمودها الفقري سيكون الاخبار المحلية. والسبب الابرز طبعاً هو ان الشركة الام كانت تستعد لاطلاق تلفزيون اخباري محلي، وبعد وأد التجربة، يجد القيمون ان من الافضل الاستفادة من تجربة القناة التي لم تولد، ونقلها الى الاذاعة بهدف التميز، حتى لو كان نقل لما على الورق من دراسات فقط. وذهبت اذاعة «يو اف ام» الى الرياضة كعمود فقري للاذاعة، ولا يخفى على احد في الوسط علاقة الإذاعة الاستراتيجية بصحيفة «شمس»، والأخيرة شبابية تعطي مساحة كبيرة للرياضة. أضف الى كل ذلك ان الاذاعتين لم تشتريا حقوق بث اغنيات روتانا او بلاتينيوم ريكوردز او سواها من الشركات، فكان من الطبيعي ان تبحث عما يميزها على مستوى المحتوى، حتى لو كانت في الاطار العام هي اذاعات عامة وليست متخصصة، فمن السهل اضافة برنامج ديني أو اجتماعي أو فني، ليخرجها من الخصوصية الى العمومية من وجهة نظرهم. اما «اذاعة مكس اف ام» فوجدت انه ولمقارعة ام بي سي وروتانا لا مناص من شراء حقوق بث الأغنيات، حتى لا تتميز عليها هذه الجهات صاحبة التجربة الطويلة. وما لا يُختلف عليه اذاعياً أن الرياضة والفن والغناء هي العمود الفقري لمعظم اذاعات الاف ام في العالم اذا أضفنا الى ذلك الخدمات والاخبار المحلية - المحلية، اي المناطقية، وهو أيضاً ما لم تسمح به وزارة الثقافة والاعلام حين طرحت الرخص، ولهذا بحث مطول غداً. أما روتانا، فمن الطبيعي جداً ان يكون محتواها يرتكز بشكل أساسي على المحتوى الغنائي والفني، فهذا ما يناسب العلامة التجارية. إذاً، وجدت الاذاعات نفسها في ظروف تفرض عليها سياستها التحريرية وبالتالي محتواها، بناء على متطلبات السوق، وظروفها، وطبيعة المنافسين. محتوى الاذاعات ال 6 الحالية يبقى الحلقة الأضعف، على رغم كل المبررات التي أوردها القيمون على الاذاعات. إن ما ينقص كل الاذاعات هو غياب دور مدير التحرير او رئيس تحرير القناة، الذي يلعب دوراً مهما في مراقبة جودة المحتوى. وتذهب معظم الاذاعات الحالية الى دمج مهام هذا المنصب مع المدير العام للقناة او مع مدير البرامج او مدير الانتاج أو مدير العمليات. ان دور محرر الاذاعة او رئيس تحريرها او مدير محتواها او تحريرها - باختلاف المسميات - يكمن في صياغة هوية القناة على مستوى المضمون، فمن كتابة اسلوب وحظر لزمات، إلى التأكد من سلامة بنية عبارات المذيعين حتى لو كانت عامية، بل والعمل على تثقيف المقدمين والمعدين وتعليمهم العمل الصحافي الإذاعي بدرجاته. وبحسب علمنا فإن الدور هذا يوكل في معظم الإذاعات إلى أشخاص عدة منهم المدير العام.