في الصورة الوردية الأخيرة عن البلقان (انظر «الحياة» عدد 23/10/ 2009)، حيث يبدو أن دول «غرب البلقان» بدأت تندرج في السير للانضمام الى الاتحاد الاوروبي حتى 2014 حين تحتفل اوروبا باختتام قرن من الحروب، كانت هناك جملة أخيرة تقول إن «الماضويين» و «البلقانيين» الذين يريدون للبلقان أن يبقى برميل بارود لن يستسلموا بسهولة. وبالفعل ما إن نشر هذا السيناريو المتفائل عن السنوات الباقية للبلقان (10-14/10/2009) حتى بدأت ملامح السيناريو المعاكس تبدو في الأفق لتقول إن البوسنة في خطر جديد بسبب الموقف المتشدد ل «جمهورية الصرب» ازاء مطالب الاتحاد الاوروبي بإجراء اصلاحات دستورية وإن التهديد بتقسيم البوسنة يعني العودة الى المربع الأول. كان الغرب قد تدخل بعد تردد اوروبي وتشدد أميركي في الحرب الدائرة في البوسنة خلال 1992 - 1995 لينهي هذه الحرب بالتوقيع على «اتفاقية دايتون» في 1995، التي صممت وضعاً خاصاً للبوسنة لا مثيل له. فقد أعطت الاتفاقية الصرب نصف البوسنة (49 في المائة) ليقيموا عليها «جمهورية الصرب» التي قبلت في المقابل أن تدخل في كونفيديرالية هشة مع «الاتحاد المسلم الكرواتي» حتى يتم تفادي تقسيم البوسنة بأي ثمن كي لا ينعكس ذلك على الجوار البلقاني. وتضمنت ملاحق الاتفاقية «دستور دايتون» الذي ينص على انه لا يمكن إدخال أي تعديل عليه إلا بموافقة الأطراف الثلاثة (المسلمين والصرب والكروات)، كما تضمنت ملحقاً حول عودة المهجرين الى موطنهم حيث انهم الضمانة الحقيقية لعودة البوسنة الى ما كانت عليه كمكان للتعايش بين الأعراق والأديان. لكن بعد مضي 15 سنة نُفذ من هذه الاتفاقية الملحق الأول (المتعلق بعدم إدخال أي تعديل على الدستور) بينما لم ينفذ الملحق الآخر المتعلق بعودة المهجرين. وعلى أرض الواقع أصبح لدينا كيانان سياسيان حيث إن «جمهورية البوسنة» تتصرف كدولة مستقلة لها أجهزتها الأمنية الخاصة وعلاقاتها الدولية المباشرة (مع جمهورية صربياً)، ما أثار أزمة حادة في شهر ايلول (سبتمبر) الماضي مع زيارة الرئيس الصربي بوريس تاديتش لبانيالوكا عاصمة «جمهورية الصرب» من دون التنسيق مع العاصمة المركزية سراييفو. وكان الاتحاد الأوروبي يدرك، بطبيعة الحال، هذا الوضع ويتساهل مع البوسنة على أمل أن يتحسن الوضع مع تأهيلها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق وقعت البوسنة كغيرها من الدول المجاورة على «اتفاقية الشراكة والاستقرار»، التي تعتبر الخطوة الأولى، لكن تباطؤ الإصلاحات المطلوبة من البوسنة أدى الى عدم ضمها مع صربيا ومقدونيا والجبل الأسود إلى نظام شينغن. ولم يعد من الأسرار أن «جمهورية الصرب» كانت وراء عرقلة الإصلاحات المطلوبة لأنها أصبحت تتطلب «تعديل دستور دايتون» وهو ما تعتبره خطاً أحمر لا يجوز التساهل فيه. ومن المعروف ان «اتفاقية الشراكة والاستقرار» ثم جولة المفاوضات بعد اكتساب وضعية «الدولة المرشحة» مع الدول البلقانية المجاورة (سلوفينيا ورومانيا وبلغاريا وكرواتيا) كانت تعني القبول بإنجاز تعديلات دستورية وقانونية وإصلاحات اقتصادية وقضائية وإدارية حتى تقترب من المعايير المشتركة في الاتحاد الاوروبي. ولكن في حالة البوسنة كانت هذه المطالب تقابل بالتشكيك من قبل «جمهورية الصرب» على اعتبار انها حلقة من حلقات «التآمر الغربي» على الصرب في كل مكان (كرواتيا وصربيا وكوسوفو والبوسنة). لذلك لوحظ انه مع الإعلان عن «السيناريو المتفائل» عن البلقان خلال السنوات القادمة (2010 - 2014) سارع رئيس حكومة «جمهورية الصرب» ميلوراد دوديك الى تصعيد لهجة التهديد ازاء «الضغوط الغربية» على الصرب في البوسنة، في لقاء له مع الصحيفة الصربية المعروفة «داناس» التي وضعت في المانشيت الرئيس لها جملة له جاء فيها «البوسنة ستنهار اذا واصل الغرب ضغوطه» (عدد 12/10/2009). وكان من الملاحظ هنا أن استخدام الخطاب القومي الصربي (الحديث عن «الغرب» كطرف شرير) جاء في وقت قطعت فيه صربيا هذا الخطاب بعد أن أصبحت أولويتها المعلنة الانضمام في أقرب وقت الى الاتحاد الأوروبي وقطعت لأجل ذلك شوطاً جيداً خلال 2009 ما أهّلها للانضمام الى نظام شينغن ابتداء من مطلع 2010. وكان من الطبيعي أن يترك هذا التهديد صداه في البلقان، لأن الحديث عن التقسيم يحرك «الماضويين» و «البلقانيين» في كل مكان. ففي صربيا وفي كوسوفو لدينا من يحلم بتقسيم كوسوفو ولدينا في مقدونيا من يحلم بتقسيمها الخ... وكانت هذه الأخيرة قد تعرضت الى هزة قوية قبل شهر كادت أن تعيدها الى المربع الأول بسبب «الموسوعة المقدونية» التي سحبت حديثاً من المكتبات (انظر «الحياة» عدد 13/10/2009). ومن هنا فقد نُظِر الى هذا التهديد بجدية لأن انفصال أو استقلال «جمهورية الصرب» عن البوسنة لا يترك معنى ل «الاتحاد المسلم الكرواتي»، حيث إن الكروات سيطالبون بدورهم بالانفصال أو الاستقلال والانضمام الى كرواتيا، وهذا سيحرك بدوره النزاعات المماثلة في كوسوفو ومقدونيا نحو «الدولة الإثنية» بدلاً من «الدولة المدنية» التي يسعى الاتحاد الاوروبي الى تثبيتها في البلقان. وفي هذا السياق لم يخف ستروب تالبوت، مساعد وزيرة الخارجية الاميركية الأسبق والخبير في شؤون البلقان الذي يدير الآن معهد بروكينغز، في لقائه مع صحيفة «داناس» أن يكون التقسيم هو أحد الحلول المطروحة على رغم تأكيده أن «التقسيم سيكون كارثة». في الحالة هذه، لدينا عودة ملفتة الى استخدام مفردات التهديد والوعيد ضد «الغرب» كما في أيام ميلوشيفيتش، لكن مع الفارق ان من يقود «الاتجاه المعاكس» في المنطقة الآن هي «جمهورية الصرب» في البوسنة وليست «جمهورية صربيا». وفي هذه الحالة كان الاتحاد الاوروبي يأمل بدور فاعل لصربيا التي تتأهل للانضمام الى الاتحاد الاوروبي في أقرب وقت لأن مصلحة الاتحاد الصربي (التي تريد صربيا الانضمام اليه) تكمن في أن تبقى البوسنة موحدة. ولذلك جاء وزير خارجية السويد كارل بيلد، الذي تترأس بلاده الاتحاد الاوروبي، الى بلغراد في زيارة عاجلة بعد تهديدات رئيس حكومة «جمهورية الصرب»، ثم اصطحب جيم شتاينبرغ نائب وزيرة الخارجية الاميركية الى لقاء مع قادة البوسنة في الاسبوع الماضي لإقناعهم بضرورة التعديلات الدستورية. لكن النتيجة كانت سلبية حسب الصحف الصربية والبوسنية الصادرة في 22/10/2009. ومع أن وزير الخارجية الصربية فوك يرميتش زار بدوره «جمهورية الصرب» ليؤدي دور «المهدئ» لميلوراد دوديك إلا أن المراقبين في البلقان يعتقدون أن الحل يكمن في موقف صربي حاسم مماثل لموقف كرواتيا (الأقرب الى الانضمام الى الاتحاد الاوروبي) التي وجهت رسالة قوية الى كروات البوسنة بأن البوسنة دولتهم وعليهم أن يتكيفوا مع هذا المصير. لذلك هناك من يعتقد أن صربيا تناور كي تنتزع من الاتحاد الاوروبي مكاسب في نواح أخرى.