بعض التطورات لا تقبل فكرة التأويل، إنها تجسد ضرورات غير مقيدة بالاعتبارات الآنية، من ذلك أن انفتاح المغرب والجزائر على بعضهما ليس هدية تقدمها الجزائر للتيار الإسلامي الذي يقود الحكومة في الرباط، ولكنها قد تصنف في خانة رد التحية بأحسن منها إلى الشعب المغربي الذي اختار نخبته الحاكمة الجديدة. والحال أن ذهاب وزير الخارجية المغربي سعد الدين العثماني إلى الجزائر لا يحتمل أكثر ما كان يرنو إليه، أي تعبيد الطريق أمام انفراج طال انتظاره. بهذا المعنى فإن حوار السلطة الجزائرية وإسلاميي المغرب لن يكون مقطوع الصلة مع التحولات التي حتمت مصالحة الجزائر وكافة مكوناتها الإسلامية والليبرالية واليسارية وحتى الأمازيغية. فما يصدق على المتغيرات الإقليمية يترسخ أكثر على الصعيد الداخلي. وما يشجع في هذا السياق أن كثيراً من حسابات ترتيب الأوضاع في كلا البلدين زالت أو في طريقها لأن تتوارى إلى الخلف. ما يهم أن قطار التطبيع انطلق بوتيرة أقل اندفاعاً. ولا ضرورة لطرح الأسئلة، كيف ولماذا الآن. فقد هيمن الانكفاء والانشغال بالأوضاع الداخلية على فترة غير قصيرة من حياة البلدين، بيد أن هذا الانكفاء الذي حتمه تباين المواقف لم يقد إلى اكتشافات جديدة. ولعل أهم اكتشاف يفرض نفسه أن حاجة البلدين إلى بعضهما تبقى حقيقة دائمة، مهما امتدت سنوات القطيعة. صادف أن ما يعرف بالربيع العربي حرك السواكن، وأن الطريقة التي يدير بها البلدان مقود المرحلة لا تتوقف داخل حدود بعضهما، ولكنها تتلمس أفقاً آخر ظل مغيباً، وأقربه أن التغيير المطلوب ليس وصفة يمكن تسطيرها عبر آليات ديموقراطية تكرس انفتاح الداخل فقط، ولكنها تشمل بنفس الأهمية أعلى درجات الانفتاح الإقليمي، بخاصة إذ يتعلق الأمر بجوار تعززه الروابط التاريخية والمرجعيات ومتطلبات التقدم. القطار يعاود انطلاقته من الجزائر هذه المرة. وسواء كانت رحلة تعبر نحو مرافئ المصالحة الثنائية بين المغرب والجزائر، أو تمضي قدماً في اتجاه تفعيل الاتحاد المغاربي المتعثر، فإن مجرد الاستئناس بسفر جماعي في أجواء يظللها الأمل، يعني أن التغيير يمكن أن يتحقق من دون أي خسائر. بل إن مكاسبه التي تلوح بالأفق تدفع إلى التضحية بالأنانية والحذر. الاتحاد المغاربي الذي تحل ذكراه في 17 الشهر المقبل تأسس في مراكش عام 1989 لكن قبله ببضعة أشهر التأمت قمة زيرالدة في الجزائر التي مهدت الأجواء لتحقيق بعض من الحلم التاريخي لدول المنطقة الخمس. وسواء راق للمغاربة أن يقرنوا الحدث بمدينة مراكش عاصمة الموحدين والمرابطين، أو تمسك الجزائريون بانبثاق الفكرة في زيرالدة، فالثابت أن انفراج علاقات البلدين كان وراء انبعاث ذلك الزخم الذي كاد يتحول إلى سراب. كما البلدة الصغيرة زيرالدة صنعت تاريخ المنطقة بطموحاته وانكساراته، فإن المنتجع الشتوي في إيفرن في جبال الأطلس المغربي شهد حدث تمديد معاهدة ترسيم الحدود وحسن الجوار التي أنهت مسلسل الحذر وقتذاك في أواخر عام 1988. ما يعني أن مبادرة الانفتاح إذ تصدر من طرف، فإن الآخر يقابلها بقدر أكبر من الاستجابة. قد يكون لهذا السبب رد الجزائريون مرات عدة أن تطبيع علاقاتهم مع المغرب يظل شأناً مشتركاً، لم يعد في حاجة إلى وساطة بعد أن أقرا معاودة ربط علاقاتهما الديبلوماسية. وبنفس الحرص دأب المغاربة على توجيه المزيد من النداءات إلى جارهم الشرقي لتسريع فتح الحدود. غير أن ديبلوماسية الجهر بالمشاكل لم تسعف في حلها أو التخفيف منها. مهمة بهذا القدر من التعقيد، ليس وارداً إنجازها في فترة قصيرة، مهما التقت النوايا والدواعي. غير أن الزمن القياسي لإنهاء المشاكل ربما يكمن فقط في الإقرار بوجودها، من منطلق النقد الذاتي الذي يقود إلى مصارحة حقيقية تتوج بمصالحة قابلة للاستمرار. ولعل تجنب وقوع المزيد من المشاكل يمثل التحدي الأصعب. جرب البلدان مسارات عدة، بعضها كان يميل إلى إيلاء الأسبقية للتطبيع الثنائي، من دون إثارة الخلافات الإقليمية، وبعضها راهن على الذهاب نحو معاقل تلك الخلافات كي يصبح التطبيع دائماً. فيما أن استقراءات اهتمت بوضع كل الملفات العالقة في سلة واحدة. كل هذا الجدل انتهى إلى حقيقة أن أزمة البلدين ألقت بظلالها على المنطقة برمتها. ولأن ثمة ضوءاً في نهاية النفق، لا بد من الذهاب سوياً وعلى طريق واحدة لاكتشاف «القارة المجهولة» في علاقات لم تجرب مذاق الانفتاح على المستقبل.