وحدها التطورات الإقليمية والعربية دفعت المغرب والجزائر إلى معاودة فتح كتاب الحوار بينهما. وعلى رغم أن صفحاته كتبت بمداد التحولات العاصفة التي يجتازها العالم العربي، والتي لا تكاد تترك فرصة لالتقاط الأنفاس، فإن الإمعان في قراءتها قد يختلف بتباين المنظور. لكن الراجح على خلفية تشكل هذه التحولات أن لا سبيل أمام البلدين الجارين سوى الانفتاح على بعضهما. وربما أن المنطق الذي كان يرى في إغلاق الحدود ووضع الحواجز نوعاً من الوقاية الذاتية انتهى إلى إفلاس. وربما أن معاينة اكتساح هذه التحولات مناطق كانت تبدو بعيدة من الانهيار حتّم الذهاب نحو بعض الانفراج. طالما أن الحدود تتبدد وتتلاشى أمام الأحداث الكبرى، إذ لا يصبح معنى للتجربة القُطرية التي تتصور أن المخاطر تحدث للآخرين فقط. لا المغرب ولا الجزائر في إمكانهما الخروج من قبضة التحديات المفروضة، من دون قيام تعاون اقتصادي يقود نحو التكامل، بخاصة أن البلدين الجارين يتوفران على مؤهلات الانسجام في استخدام قدراتهما البشرية والمادية المتكاملة. حتما: الغاز والنفط في الجزائر والزراعة والأيدي العاملة في المغرب، إضافة إلى إفادة تجربتهيما من عناصر القوة والمناعة، في حال الاهتداء لأفضل صيغة ممكنة لبناء تكتل مغاربي كبير. لافت أن بعض المنتوجات الزراعية المغربية تحط الرحال إلى بلدان أوروبية وأصقاع بعيدة، ومن بعضها تعاود الرحلة نحو الجزائر بعلامات أخرى. مع أن العبور من وجدة إلى وهران لا يستغرق غير بضع ساعات. وفي المقابل فإن الجزائر تحصل فاتورتها النفطية من عواصم أبعد، ما يزيد في كلفة الشحن والتسويق، مع أن المغرب أقرب نقطة إليها. ليس هذا فحسب، ففي ميدان السياحة كان الجزائريون يأتون في مقدم زوار المغرب إبان فترة الانفراج، في حين أن الكلفة الباهظة للتهريب الذي ينشط على الشريط الحدودي المغلق تؤثر سلباً على اقتصادات البلدين. من دون إغفال التداعيات الإنسانية لإغلاق الحدود في وجه عائلات متصاهرة، تضطر إلى قطع آلاف الكيلومترات للقاء ذويها. مع أن أقرب مسافة للالتقاء تقاس بالأمتار فقط. كل الأسئلة التي تثار في المغرب بهذا الصدد تجد صداها في الجزائر. والحال أن الجزائريين كما جيرانهم المغاربة ما فتئوا مشدودين إلى هذا الوضع غير الطبيعي الذي آلت إليه علاقات، كثيراً ما انطبعت بأرقى أشكال التضامن والأخوة في مواجهة تحديات مصيرية، بخاصة خلال فترة الكفاح ضد الاستعمار. قد تفهم الخلافات التي تحدث بين فصائل الدولة الواحدة. إذ تفترق الرؤى إزاء كيفية بناء الاستقلال، حين تتنازعها نظريات وخيارات متناقضة. غير أن هذا التباين لا يكون مطروحاً بالضرورة في العلاقات بين الدول، سيما تلك التي تربطها أواصر أكثر متانة في التاريخ واللغة والهوية والامتداد. كان مفهوماً في مرحلة سابقة أن اختلاف النظامين المغربي والجزائري اتخذ مبرراً لنشوء تناقضات انعكست سلباً على مسار التفاهم وحسن الجوار. إلا أن سقوط هذه المبررات بفعل الانقياد إلى فضاء العولمة واقتصاد السوق ودعم المبادرات الحرة لم يرافقه توجه مشترك على صعيد تبادل المصالح والمنافع. ينتقي الجاران هذه الأيام قواميسهما بعناية أكبر، تعكس الرغبة في بدء مسلسل التطبيع، كي تصبح علاقاتهما عادية، ويحرصان معاً على ترديد مقولات السياق المغاربي الذي لا بديل منه. لكن التطبيع في حد ذاته ليس هدفاً. فقد جرى تجريبه على خطوات، كمعاودة استئناف العلاقات الديبلوماسية، ثم الاتفاق على سريان مفعول معاهدة ترسيم الحدود. وفي كل مرة ساد الاعتقاد بأن الجارين في طريقهما للتخلص من الأعباء القديمة، يأتي الانتكاس في الاحتماء بنقطة الصفر. تعاود المساعي المبذولة بين الرباطوالجزائر نفس التمنيات، وتكرر أخطاء يتم استنساخها بأشكال جديدة، وأقربها أن المصارحة التي تقود إلى ممارسة قدر أكبر النقد الذاتي مطلوبة في المقام الأول، ومن دون هذا السلوك السياسي الذي في إمكانه أن يجنب الرهان على التطبيع الثنائي والمتعدد الأطراف، ستظل علاقات البلدين تراوح مكانها بين زخم الأمل وقساوة الواقع. لعل التفكير باستحقاقات جداول سياسية، عما كانت عليه الأوضاع قبل انبثاق الربيع العربي، لن يكون هو ذاته في مواجهة التحولات الراهنة التي أصبحت مثل العلاج بدواء الصدمات. وكي يتجنب البلدان إضاعة فرص في متناول اليد، لا بد لهما من استقراء الأوضاع الجديدة على قيام ما تتوق إليه شعوب المنطقة التي ضجرت من الخلافات السياسية وترغب في استبدالها بمنافسات تكفل الكرامة والحرية والاستقرار.