هل ما زلنا نبحث عن معنى التسامح، أو بمعنى آخر روح التسامح، الكلام الدائر حالياً داخل أروقة البحث وقاعات المؤتمرات ومنصات الندوات يقدم لنا كلاماً متشابهاً، أعني غير محكم لمفهوم التسامح، مع التوافق المكرر لتوصيفات التسامح المتضمن تباعاً مفهوم الحوار كخلفية معرفية تؤسس له. إن أي حراك تنويري يرتكز على قيم جاهزة لا يمكن أن يقدم لمفاهيم معاصرة للتسامح، فمثلاً نحن نؤمن بأن شريعتنا سمحة ولدينا «سماحات» لا تعد ولا تحصى، شخصية كانت أم اعتبارية، إلا أن المحتوى الضمني لها لا يصادق عليها وتبدو ساذجة لحد الملل، فتكرار الأفكار جوّفها من الداخل، حتى أصبحت مادة مستهلكة لا تتماشى مع روح العصر، نعم ثمة أناس كثر تروق لهم الأفكار الجاهزة والقيم الوعظية السهلة، فهي تبدو أمامهم كحصالة أو ماكينة «كاشير» تُنقِدهم الحلول المسكنة كما تُنقِد أوراق البنكنوت ذات القيمة الرخيصة، بينما تودع الأوراق الكبيرة في حسابات المسوقين الكبار. في القرون الوسطى مرت المذاهب والأديان عبر مفارز تصفية متعددة، قامت بها الكنائس تحت مظلة الأباطرة، فلم تنعتق من نير هذا الإجحاف إلا عند منتصف القرن ال15، إذ اكتشفت الحقيقة الواحدة موزعة بين الأديان كلها بالتساوي، وعلى هذا بنيت كل المبادرات التسامحية المفرغة من الذاتية المفرطة. تحمل المفكرون والفلاسفة أعباء هذه المهمة الصعبة وفق تأسيس أفلاطوني، وخرجوا بنتيجة دفعوا ضريبتها مفادها: أن الأديان يمكنها التعايش معاً من دون الإفراط أو التفريط في جانب من دون الآخر... ودعا آخرون على وجل الكنيسة الكاثوليكية إلى أن تتحلى بالصبر على ما كان يسمى بهرطقة الخارجين، ومع كل ذلك فلم تعلُ قيم التسامح الديني إلا تحت رؤية علمانية دينية قام بها مارتن لوثر في القرن نفسه الذي نادى بفصل العنصر الروحي عن الدنيوي، واضعاً اللبنة العلمانية الأولى في مسيرة الخلاص، محرضاً على إعمال الفكر والجدل كبديل عن النار التي كان يحرق بها الخارجين عن حوزة الكنيسة، ما انتقص من ثورة لوثر الإصلاحية باتجاه علماني دعوته لقتل كل الانشقاقيين عن الحاكم، كان يقصد من يسمون بالتعميديين، الذين شقوا صفوف الأمة الواحدة. تلته موجات تطهيرية عصفت بأوروبا لمن وصموا بالملحدين، قاد إلى ذلك الاضطراب الرؤيوي للأفكار المستجدة، وقد أحرق خلال هذه الفترة عدد من المفكرين المنشقين عن صفوف الكنيسة الكاثوليكية، وما بين القرنين ال15 وال16 كانت أوروبا تراوح ما بين العقل واللاعقل، لتحسم أخيراً لصالح العقل. جون لوك مثلاً واحد من أبرز دعاة التسامح في منتصف القرن ال «17» نستطيع أن نطابق تحولاته جزئياً على بعض دعاتنا الإصلاحيين اليوم، فقد مر في دعواته التسامحية واللاتسامحية بثلاث مراحل. في الأولى: كان ينكر حرية الفرد، وقد تساءل يوماً قائلاً: لو أتحنا للشعب حرية غير محدودة في ممارسة الدين فأين سيتوقف؟ وعقب على ذلك بقوله: حتماً سينساق في فوضى لا حدود لها، لذلك طالب باستعمال العقوبات والقوة القاهرة ضد المخالفين، وهذا ما يتبناه كثير من مفكري الصحوة الذين خضعوا أخيراً وبشكل جزئي للثورات الشعبية التي عمت العالم العربي، متناسين كونهم ليسوا بمعزل عن تجاذباتها. في منتصف الطريق خفف جون لوك من إحماءته ضد المخالفين، عندما ترك إنكلترا إلى مدينة كلف الألمانية، وهنا تكمن المفارقة التاريخية الغريبة، فلوك يتأثر بالألمان الذين أصبحوا بعده بثلاثة قرون مؤسسة نازية لا تزال تدفع فواتير حروبها العنصرية، هناك قال لوك إن الألمان يسمحون للآخر في هدوء أن يختار طريقه بحرية إلى السماء، ما دفعه لتأليف كتابه الموسوم ب «رسالة في التسامح»، طبع بهولندا خلواً من اسم المؤلف، تسرب إلى الناس كالنار في الهشيم، وترجم إلى لغات عدة، خلصت رسالته إلى ضرورة الفصل بين الدولة والكنيسة، ومع ذلك لم يتخل عن رأيه في الملحدين قائلاً: من لا يؤمن بالله لا عهد له ولا يوثق به. مما تقدم أعلاه يتضح جلياً أن أسس العلمانية جاءت في بداياتها تحت مظلة دينية، ثم إن الاصلاحيين تأثروا ببيئات مغايرة، بمثل ما حدث عندنا تقريباً عقب خروج بعض الدعاة والمتطرفين من السجون وانقلاب بعضهم باتجاه آخر لا يقل ضراوة عن اتجاههم السابق، ولكن من خلال الفكر والقلم. بعض قادتهم اشتغل على تربية أقلام لتخوض معركة كتابية أنيقة وناعمة بدأت أخيراً بولوج حيز العقدي المحظور، بغية تفكيك أجندة ثابتة ومستقرة حول مفهوم المطلق والكوني والشمولي، وهذه مرحلة تسبق الصدمة التالية التي ربما تأخذ وقتها وتتخللها كتابات مشابهة حتى تتضح الرؤية ويسلم الفقهاء التقليديون بضرورة الصراع، وهذا طريق غير ممهد للوصول إلى مفهوم الحضارة الشامل الذي تفصلنا عنه أربعة قرون. هذا قياساً بعصر جون لوك وكتَّابه الصادمين للكنيسة المتشددة مع خصومها أمثال «فاوستوسوتسيني»، الذي دعا إلى التسامح العقدي وضرورة التمييز بين ما هو جوهري وغير جوهري في العقيدة، هذا الفكر المتسرب خفية وعلى وجل في بداياته كون قاعدة من المريدين الذين دفعوا أخيراً بالكنيسة لنبذ المبدأ القائل «حيث يوجد سيد واحد يوجد دين واحد» كل هذا التاريخ الدامي تمخض أخيراً عن حضارة تعترف بالإنسان كقيمة أولى، نستشعر هذه القيمة عملياً حينما نيمم وجوهنا شطر الغرب، هناك لا نحس بالقيود في ممارسة ما نريد بشرط أن نكون داخل حيزنا المخصص لنا، نعرف ذلك من خلال القوانين والأنظمة التي نتشربها سريعاً من دون الافتقار إلى شروحات طويلة ومملة، إحساسنا بالعمق الزمني الذي يفصلنا عن هذه الحضارة يجب ألا يحبطنا، فمرحلة التأسيس هي بحد ذاتها تجربة تاريخية خلاقة، سيدون المؤسسون أسماءهم في سجل التاريخ العظيم، ولكن بشرط تحديد نقطة الانطلاق التي يجب ان تبدأ من أهمية، أو بمعنى آخر المطالبة بصياغة مفهوم جديد لمعنى التسامح. التسامح مع الأفكار الجديدة، وطرائق الحياة المختلفة، وتحرير المعرفة من قوالبها الجاهزة، وعدم التسرع في امتطاء ظهور الأفكار الانقلابية الجديدة، بما يشبه الصعق الفكري الذي لا يقتل سوى صاحبه، فلدينا وقت ستتابعه الأجيال المقبلة بشرط أن نسلمهم الراية الصحيحة. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] twitter | @almoziani