التقيت «عائشة» للمرة الأولى، لم أرَ منها إلا العينين اللتين أطفأت الحياة فيهما سنين عجاف، كان معها ابنتاها، وسأمنحهن أسماءً مستعارة «إرادة» ذات ال «14» ربيعاً، و«إباء» ذات ال «13» ربيعاً. حين تكلمت، شعرت أن هموم الدنيا تكالبت على قلبها وسرقت صوتها المنتفض كعصفور أنهكه المطر... «عائشة» ليس لها من اسمها نصيب، فهي معلقة منذ أكثر من عشر سنين «فلا هي متزوجة ولا مطلقة»، زوجها يدعي التدين لكنه لا يعرف من الدين غير لحية وثوب قصير، تركها لصروف الدهر وتزوج أخرى، وحين بلغت ابنتاها «إرادة وإباء» ال 10 وال 11 أصر أن يزوجهما، ولأن القوانين في وطني لا تنص على سن قانونية للزواج، وقفت وحدها في وجه الظلم لتبطل مشروع الزواج، واختارت أن تنذر حياتها لتحمي ابنتيها... تعيش وحيدة على ما يجود به إخوتها الرجال، لأنها لم تستطع أن تعمل في أي مكان، إذ شرط موافقة «ولي الأمر»، كانت شوكة تغرز في ظهرها لتبعدها كل مرة «إرادة وإباء» ليستا فتاتين عاديتين، جمعن الذكاء والفصاحة والشجاعة وحتى حب الاختراع، حلمهن أن يكن ضمن برنامج الابتعاث بعد الثانوية، لكن عائشة لا تملك أوراقهن الثبوتية ولا جواز سفرهن، ولن يستوفين شرط وزارة التعليم العالي «محرم المبتعثة»، لأنه لا رجل في حياتهن، لذلك ستظل أحلامهن حبيسة قيود «قانون الأسرة» الغائب، الذي كان سيعطي الأم حق الوصاية لو كان ذلك القانون موجوداً. الشاهد في مقالي هذه القصة: قبل عامين تقدمت «عائشة»، بطلب أن يؤذن لها بالقيادة لحاجتها ولعدم وجود مواصلات عامة في مدننا، ولتعرضهن لمضايقات وصلت لمحاولة الاختطاف حين يقفن في الشارع بانتظار سيارة أجرة، تم رفض الطلب، فعادت خالية الوفاض، وتمر الأيام وتتكشف الحقيقة، إذ عرفت أن لا قانون يمنعها من القيادة، وأن المسؤولين ما فتؤوا يرددون في كل مناسبة أنها شأن اجتماعي، وحين حصلت حادثتي الشهيرة تقول: «استيقظت بعد تغييب قصري أن حرية التنقل من أبسط حقوقي»، تمكنت أن تشتري سيارة بالتقسيط، فالقانون لا يمنع أن تتملك المرأة السيارة، لكن القانون نفسه لا يحميها إن قادتها، قامت بتظليل السيارة بالكامل، ودفعت لامرأة سودانية تعلم النساء القيادة لتعلمها وابنتيها، الوحيدة التي امتلكت الشجاعة لتقود في شوارع الرياض المزدحمة كانت «إباء»، وعلى رغم أنها طفلة لم تتجاوز ال «13 عاماً»، لكنها من تقوم حتى اليوم بمسؤولية قضاء المشاوير اليومية لعائلتها الصغيرة... حكت لي «إباء» عن نظرات الجيران حين تجلس خلف المقود، وكيف يتملكهن الرعب إذا مررن بجانب دورية المرور والخوف من أن يبلغ عنهن أحد المواطنين لرجال «الهيئة» إذا توقفن بجانب مركز تجاري. يسألني الكثيرون «من ملهمي في حياتي؟»، إجابتي كانت وستظل دوماً «المرأة السعودية»... المرأة التي تربي وتتعلم وتبدع وتتفوق، على رغم كل المعوقات، وعلى رغم أنها في القانون قاصر من المهد إلى اللحد... المرأة التي تحمل وحدها مسؤولية الحفاظ على شرف العائلة... المرأة التي تستجدي المحارم الذكور الإذن لتدرس، لتعمل، لتتزوج، لتحصل على حق المواطنة من أوراق ثبوتية، لتخرج من بيتها، لتتنقل من مكان لآخر، لتعيش. [email protected]