كيف نقرأ الروايات العربيّة المكتوبة أو الصادرة عشيّة الثورات العربيّة؟ هل ننظر إليها على أنّها من عصر بائد لا يصحّ ما فيها على الواقع المستجدّ، أم نفتّش بين كلماتها عن ملامح ثورة لم يصدّق الأدباء والمفكّرون أنفسهم، وهم أكثر الحالمين بها، أنّها قد تتحقّق ليكونوا هم أوّلَ المتفاجئين بها؟ وكيف نفهم أن يخرج إلى الشارع ثوّارٌ يريدون إسقاط الأنظمة الديكتاتوريّة وبينهم رجال لا تزال أيديهم ملوّثة بدماء نساء لا يسلم الشرف الرفيع من دون إراقة دمائهنّ؟ وبماذا تختلف النساء اللواتي استُشهِدن في سورية خلال التظاهرات الأخيرة (أكثر من خمسين شهيدة) عن آلاف النساء اللواتي قتلن ولو بشبهة الحبّ؟ تساؤلات فرضتها رواية «بنات البراري» للكاتبة السوريّة الكرديّة المقيمة في فرنسا مها حسن (دار الكوكب–رياض الريّس)، ولن نجد الأجوبة عليها قبل أن تتبلور صورة المجتمع الجديد ويتوضّح دور المرأة فيه مع وضع حدّ لمرحلة سوداء عنوانها: جرائم الشرف. وإن كان من موضوع يستحقّ الكتابة عنه بمزيج من الشعر والغرائبيّة والواقعيّة التقريريّة، فهو جرائم الشرف التي هي مزيج من الحبّ والجنس والجريمة، وفيها يختلط الخاصّ بالعام، والقيم الاجتماعيّة بالظلم. وهذا ما بنت عليه الروائيّة هيكل روايتها. ومع ذلك، فالمعلومات الموثّقة عن هذه الجرائم أساءت في أكثر الأحيان إلى العمل، حين أسقطت اللغة من قمم الفانتازيا إلى حضيض الخبر النثريّ الجافّ واللهجة الخطابيّة الواعظة، كما في قولها «اخترع الرجال الأفكار، قسّموا العالم ونظّروا فيه وأفسدوه وحلّلوه (...). يجب أن تأتي امرأة لتقلب الفكر العالميّ...» (ص 98). فهل كانت الكاتبة تتعب من ثقل هذه الجرائم على ضمير البشريّة فترزح بها ومعها، وتتخلّى عن ترف الصورة الشعريّة لتفاجئ القارئ بتدخّلها مصلِحةً اجتماعيّة ثائرة غاضبة، ثمّ تجبره على الانضمام إليها ولو شاهداً سلبيّاً؟ في الصفحة الأولى من الرواية، نقع على انطلاقة فنيّة رائعة تصوّر جريمة الشرف التي ترافقت مع ولادة الطفل الآتي من خارج شرعيّة الزواج: «في اللحظة التي انفصل فيها الرأس عن الجسد، سقط الرأس الثاني في الأسفل. مشهد بالغ الغرابة، جسد مفصول الرأس، يتدلّى من بين الساقين رأس آخر. أهو جسد يحمل رأسين، رأساً في الأعلى وآخر في الأسفل؟ انشغل الحاضرون بالرأس الأوّل، المفصول عن جسده، لهذا لم يلحظ أحدهم بروز الرأس الثاني». ثمّ تأتي العبارة التي تجعلنا فيها الكاتبة شركاء معها في رؤية ما يجري وفي عدم التحرّك لمنعه: «المرأة العجوز الجالسة خلف النافذة، الملتصقة بكرسيها، لا تتحرّك كما لو أنّها ميتة، إلاّ أننا نعلم بأنها ليست هكذا، فقط عبر دموعها». «إننا نعلم» تقول، ومع ذلك نكتفي بالبكاء، كهذه المرأة العجوز. ولكن الرجل العجوز الذي تبرق عيناه ابتهاجاً بتحقيق العدالة والانتقام للشرف، والجالس كما تجلس المرأة، يفسّر عجز المجتمع عن محاربة هذا النوع من الجرائم، وحين يتحوّل حبيبُ المرأة المفصولة الرأس ووالدُ الطفلة مرتكبَ جريمة شرف يغسل فيها العار، نفهم أنّ الرجل العجوز في بداية الرواية كان مطمئنّاً في سرّه إلى تواصل مسلسل القتل. تتوزّع الرواية على فصول لها ألوان، كما في رواية «شرائط ملوّنة من حياتي» للكاتبة اللبنانيّة ليلى عسيران (1994): فالفصل الأوّل عنوانه «أحمر»، وهو لون الدم الذي صبغ القرية التي قتلت فيها «سلطانة» بسبب علاقتها ب «إبراهيم» وحمْلها منه. عنوان الفصل الثاني «أصفر»، وهو لون الخوف كما تشرح الكاتبة، التي تتدخّل في الصفحة 51 قائلة: «لماذا سمّي هذا الفصل بالأصفر؟ جميع شخوص هذه الرواية يشعرون بالخوف. الخوف الذي يمتقع بسببه لون الوجه. يهرب منه الدم الأحمر». الفصل الثالث يحمل عنوان «بنات البريّة»، وفيه نرى أنّ الفتيات لا يشعرن بالأمان إلاّ متى تركن بيوتهن وقراهنّ واعتزلن في البريّة، في اتّهام مباشر للحياة الاجتماعيّة التي تغتصب المرأة وتقتلها بدل أن تحميها. الفصول الأخرى تحمل على التوالي عناوين: أحمر قانٍ، برتقالي، أزرق عابر، أسود، أخضر، وفيها دلالات واضحة على القسوة في الأحمر القاني حين ينتشر الخوف من الحبّ الذي بات الجميع يرى فيه طريقاً للموت، ثمّ يلوح احتمال خلاص في البرتقالي، حين كبرت ابنة «سلطانة» وبلغت، وغسلت بدم حيضها لعنة أمّها على القرية وبدأ الأحمر بالاختفاء تدريجاً. يليه أمل عابر في الأزرق، حين عرفت ابنة «سلطانة» الحبّ فمنحها حبيبها اسم «ريحانة» بعدما كانت بلا اسم، قبل أن يقتلها والدها غسلاً للعار. هنا تنتهي الرواية، غير أنّ الكاتبة تأخذنا تحت عنوان اللون الأسود إلى باريس، حيث تقيم، لتعرّفنا على رجل «حقوقيّ، حاصل على شهادة عليا في الحقوق، ومعارض سياسيّ اعتقل لسنوات، وتعرّض للضرب والتعذيب، إلاّ أنّه قال لي (للكاتبة)، ولم أفاجأ كثيراً، فهو أبي، أو يشبه أبي ومعظم الآباء الشرقيّين: «تعرفين، لو أنّ ابنتي خرجت عن الشرف لقتلتها» (ص 140). غير أنّ الروائيّة في الفصل الأخير الذي تصفه بأنه متخيّل، تعبّر عن رجائها بمجيء غد أفضل أعطته اللون الأخضر، ولن يتمّ ذلك ما لم تتحدّ البنات، بنات الحريّة، ويستحممن على آثار دماء سلطانة وريحانة (ص150). لم يكن في إمكان مها حسن أن تبقى روائيّة محايدة مختبئة خلف شخوصها وهي ترى النساء يذهبن ضحايا الحبّ والرجال يَقتلون بسبب الجهل ولو ادّعوا أنّهم يشجّعون بناتهم على الدراسة، ففي مشهد من الرواية تحذّر «تميمة» نبيّة القرية، المتنسّكة في البريّة، والد «سلطانة» من إرسال ابنته إلى المدرسة من دون أن تبوح له بالسبب. فهي بحكم قدرتها على رؤية المستقبل عرفت أنّ المأساة ستقع لا محالة حين تتعرّف «سلطانة» على حبيبها في المدرسة. يرفض الوالد النصيحة قائلاً بحزم: أريدها أن تخرج، أن تملأ وقتها بعوالم مختلفة، أن تتعلّم، أن تفكّر، أن تتساءل، أريد لذهنها أن يتفتّح، ويخرج من حدوده الضيّقة. العلم مهمّ يا أمّاه، العلم يمنحها المعرفة، والمعرفة بصيرة ونور، العلم يفتح طاقاتها الداخليّة، يفتح أمامها أبواباً جديدة، ينقذها من مصير ضيّق محدود. هكذا فقط أستطيع حمايتها، لا بعزلها في المنزل كقطّة بيتيّة، أو كعصفور، في قفص، بل عبر تعليمها ومنحها صوراً جديدة واحتمالات مختلفة» (ص44). لم يأت «شريف» والد «سلطانة» على ذكر الحبّ كاحتمال شعور قد ترغب ابنته في اختباره، لذلك كان عليه أن يكون «اليد» التي تحمل السكّين نيابة عن المجتمع ويقطع عنق ابنته التي أراد لها، ربّما، أن تتعلّم كي تحصل على وظيفة وتساعده في تحمّل أعباء الحياة، لا أن تعرف جسدها وجسد الرجل وتكتشف رغباتها ورغباته. والمفارقة هي أنّ كلّ رجل يقنع نفسه بأنّه يؤدّي مهمّة مقدّسة يحميها القانون وتشرّعها التقاليد ويباركها المجتمع، فيجيب «إبراهيم» ابنته «ريحانة» حين تسأله عمّا سيفعله بها حين علم بخرقها التقاليد: ليس أنا...إنّه القدر. «بنات البراري» لا يخرجن اليوم للتنزّه، ويرجعن بباقات من ورد الربيع، شقائق النعمان، الأقحوان، الورود الصغيرة الملوّنة التي لا يعرفن أسماءها، النرجس الأصفر (ص 65). إنّهن مساهمات في زراعة الربيع العربيّ في ساحات المدن، فهل تنصفهنّ أزمنة ما بعد الثورات، وتحمي حريّتهن ورغبتهنّ في العلم والحبّ والحياة؟