كيف تبدو حوادث «الربيع العربي» بعين من يُركّز على التقاطع بين العلوم والتكنولوجيا من جهة، والتطوّر اجتماعياً من جهة أخرى؟ كيف يُقرأ سقوط نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك بثورة لعبت الشبكات الاجتماعية الافتراضية دوراً مهماً فيها، مع ملاحظة أن هذا النظام عينه هو الذي أدخل الإنترنت إلى مصر، بل أتاحها مجاناً؟ كيف توصف العلاقة بين لجوء النظام إلى محاربة «ثورة 25 يناير» بقطع الإنترنت والخليوي من جهة، وواقعة أن آخر رئيس وزراء في النظام المتهاوي (أحمد نظيف) جاء من «القرى الذكية» المختصة بالكومبيوتر والمعلوماتية والاتصالات المتطورة في مصر؟ تراكم المعرفة وشبكاتها باختصار، يمكن القول إن عناصر الإنتاج تنقسم إلى رأس المال والعمل والأرض والتنظيم. وتؤدي زيادة أحد هذه العناصر (أو كلها)، إلى زيادة في كمية الإنتاج. وينقسم رأس المال بدوره إلى عيني وبشري واجتماعي. ويمكن تعويض نقص أحد هذه المُكوّنات عبر تنمية مكوّن آخر، إذ يشمل رأس المال العيني المصانع والمعدات والأدوات المستخدمة في العملية الإنتاجية. ويضمّ رأس المال البشري المهارات والمعارف والخبرات والقدرات المتراكمة في أدمغة قوى العمل والإنتاج. في المقابل، يتكوّن رأس المال الاجتماعي من شبكات اجتماعية وسلوك تعاوني وجماعات ضغط تسير بهدي من قيم معيّنة مشتركة بين أعضائها. وبقول آخر، يشمل رأس المال الاجتماعي الأحزاب والجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني والشبكات الاجتماعية الافتراضية واللجان الشعبية والجماعات الطالبية والصداقات بين الأفراد والنسيج المتشعب للأسرة وغيرها. وتعبّر القيم المتضمّنة في رأس المال الاجتماعي عن الثقة والأمانة والمواطنة والديموقراطية والحرية والأخوة وقبول الآخر والعطاء والتضحية من أجل الجماعة وغيرها. تعتبر جماعة ما متماسكة، عندما يسودها الثقة والتكافل والولاء والحرية، كما تكون أكثر إنتاجية من غيرها. ويستطيع رأس المال الاجتماعي تعويض نقص رأس المال العيني وتنميته، وإعادة توزيع الثروة، بما يحقّق التكافل بين أفراد جماعة معيّنة. ويوجد رأس المال البشري فى عقول الأفراد، بينما يوجد رأس المال الاجتماعي فى الروابط الأُسرية وجماعات الضغط والتجمّعات الاجتماعية الساعية إلى تحقيق هدف معيّن، وغيرها. رأسمال اجتماعي سلبي هناك رأسمال اجتماعي سلبي أو هدّام، ويشمل الاستبداد والتطرف والبلطجة والمحسوبية وشبكات الفساد وجماعات الجريمة المنظمة والعصبية القبلية أو الدينية وميول الإقصاء والتهميش وغيرها. ولعل أسوأ جرائم مبارك أنه رعى رأس المال الاجتماعي السلبي وهدم رأس المال الاجتماعي البنّاء. فقد حارب الأحزاب والمجتمع المدني ونشطاء الإنترنت والجمعيات الخيرية والعمل النقابي والتجمعات الطالبية. كما أنه دمَر رأس المال البشري بإهماله التعليم والبحث العلمي والرعاية الصحية. كما سمح بتدخل الأمن في تعيين الكوادر الجامعية، ومعلمي المراحل التعليمية الأولى، ما أثر سلباً في رأسي المال الاجتماعي والبشري. إضافة إلى ذلك، فكّك نظام مبارك جزءاً كبيراً من رأس المال الاجتماعي العيني، المتمثل في القطاع العام، وباعه بأسعار بخسة. كما حوّل جزءاً كبيراً من ثروة مصر البشرية، أي عنصر العمل، زُمَراً من العاطلين والمرضى. ثم أنه لم يحمِ الأرض الزراعية من التآكل، ووزّع أراضي مصر وشواطئها على رجال الأعمال والمستثمرين الأجانب وجنرالات الجيش والشرطة، ما أدى إلى توزّع غير كفؤ للموارد البشرية والطبيعية. وبمعنى آخر، لقد دمر نظام مبارك المخلوع عناصر الإنتاج كلها، وعلى رأسها رأس المال بأنواعه المختلفة. وارتبطت آخر جرائم النظام المخلوع برأس المال الاجتماعي السلبي، إذ استعان بالمجرمين والمساجين لمحاولة إجهاض «ثورة 25 يناير»، ومواجهة رأس المال الاجتماعي البنّاء، وإرهاب الشعب المصري. واستنتاجاً، فإن أهم ما أنجزه رأس المال الاجتماعي البنّاء لدى الشعب المصري هو إطاحة مبارك ونظامه. فقد أطاح آخر الفراعنة، وهزم بلطجيته، وطارد فلوله، وكبح جماح عسكره. وحافظ رأس المال نفسه، بمكونيه الشبكي والقيمي، على أمن البلاد، وصان المصالح العامة، بالإصرار على الانتصار سلمياً. وهكذا، يمكن القول إن «ثورة يناير» مثّلت انتصاراً لرأس المال الاجتماعي البنّاء على نقيضه الهدّام. ومصر فقيرة برأس المال العيني، إلا أنها غنية برأس مالها الاجتماعي، بمكونيه الشبكي والقيمي، إضافة إلى عنصر العمل والأرض والمعطيات الأخرى المتصلة بعمليات تبادل القيمة ورأس المال في مصر. تنمية رأس المال البشري إضافة إلى الإنجازات الاجتماعية والسياسية الكبيرة التى حقّقها عبر «ثورة يناير»، من المستطاع توظيف رأس المال الاجتماعي المصري لتحقيق قفزة اقتصادية كبرى، إذ يمكن تحويل الشبكات الاجتماعية الافتراضية التي نسجها المصريون على الإنترنت، إلى شبكات علمية ومعرفية تساهم فى بناء مجتمع العلوم والمعرفة، وتنمي رأس المال البشري عبر زيادة التبادل المعرفي والخبرات بين أفراد الجماعة. وبصورة أكثر تحديداً، من المستطاع أن تساهم الشبكات الاجتماعية والمجتمع المدني والنقابات العمالية، في صناعة رأس المال البشري من طريق التعليم والتدريب وتبادل الخبرات والرعاية الصحية. والأرجح أن يؤدي تحرّر الجامعات والمدارس المصرية والتجمعات الطالبية من قبضة الأمن، إلى تحسين مخرجات التعليم والبحث العلمي. إضافة إلى ذلك، ثمة دور تستطيع دور العبادة أن تؤدّيه، ما قد يعيد إليها دورها المسلوب في إثراء الحياة الفكرية والثقافية والسياسية. كما تقدّم الجمعيات الخيرية، وعلى رأسها «الإخوان المسلمون»، برامج لتقوية الطلاب أثناء الصيف. وتدير «الجماعة» نفسها برامج دائمة لتعليم اللغة العربية وعلوم القرآن ومناقشة الشأن العام وغيرها. واستطراداً، تستطيع كثير من الأحزاب المصرية أن تتخذ مجال التعليم والتدريب والصحة، حلبة للمنافسة فيما بينها وطريقاً للوصول إلى المواطن المصري. كما يمكن الاستفادة من شبكات الإنترنت، لطبيعتها المفتوحة والتفاعلية، في نشر المعارف والخبرات والثقافة ورفع كفاءة التعليم ودعم البحث العلمي وإثراء الحياة الفكرية وبناء مجتمع المعلومات. وتشير الإحصاءات إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت فى مصر تجاوز 23 مليوناً. كما زاد عدد المصريين ممن يستخدمون موقع «فايسبوك» المخصّص للتواصل الاجتماعي، على 5 ملايين فرد. وبلغ عدد الشبكات الاجتماعية الافتراضية التي صنعها مصريون على الإنترنت، أكثر من 32 ألفاً. ويمكن توجيه هذه الطاقات لدعم التعليم والتدريب ونشر المعارف على الشبكة العنكبوتية وتبادل الخبرات. كما يمكن دعم جماعات تطوير البرمجيات المفتوحة المصدر مثل «لينوكس» Linux، باعتبارها من العتلات الأساسية في تقدّم المعلوماتية والكومبيوتر في الدول النامية، ومنها مصر. وتجدر الإشارة إلى الشبكات الاجتماعية الافتراضية والتجمعات التي تدعم التعليم والبحث العلمي فى مصر، مثل «تجمع المهندسين المصريين» و «رابطة العلماء المصريين في أميركا الشمالية» و «جماعة لينوكس» و «هاكرز» الإنترنت، ونشطاء موسوعة «ويكيبيديا» الشبكية المفتوحة وغيرها. في نموذج لا يخلو من دلالة، هناك صفحة على «فايسبوك» لخريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية المصريين تهدف إلى التواصل فيما بينهم وتقديم التدريب والإعلان عن الوظائف الشاغرة. وفي نموذج آخر، تبنى «اتحاد الدارسين المصريين فى أميركا الشمالية» حملة لجمع التبرعات وترويج السياحة المصرية ودعم البحث العلمي وزيادة المنح الدراسية للشباب وجمع الكتب الدراسية المستعملة ومنحها لمكتبات الجامعات المصرية. ولهذا الغرض، أنشأ شباب الثورة صفحة على «فايسبوك» بعنوان «بنك أفكار شباب مصر لإعادة بناء مصر بعد الثورة»، لتجميع هذه الأفكار المتناثرة. ومن المهم البحث عن مصادر للحوافز المالية والعلمية والمعنوية، لمثل هذه التجمعات ونشطائها. وعلى سبيل المثال، تعرض موسوعة «ويكيبيديا» الشبكية والمفتوحة حالياً جائزة مقدارها 500 دولار لنشطاء «ويكيبيديا» العرب. * أكاديمي مصري