الاثنين 16/1/2012: المشهد بلادنا الآن: خائف يصطدم بخائف، ولئيم يبارز لئيماً، وعاقل يهرب فيجد نفسه في جحيم آخر، وتاجر يحارب تاجراً بالواسطة، وقوة مجهولة تغيّر لغة الناس وأزياءهم وتسلياتهم وإيقاع غنائهم، إذا استطاعوا غناء لا نواحاً. الثلثاء 17/1/2012: الربيع السوري عاش المثقف السوري الحديث، ويعيش، في الوقت الضيق ما بين استبداد وآخر، لذلك نجده غالباً في بلاد أخرى قريبة أو بعيدة، يكتب عن وطنه لقراء العربية ثم يذبل ويموت في المنفى. في أواخر العهد العثماني وجد في مصر والأميركتين موطناً ومنبراً، فشارك في النهضة العربية وكان حاضراً في «الرابطة القلمية» و«العصبة الأندلسية». قال صديق عائد من البرازيل إن أكبر مجموعة لإصدارات أدب المهجر، كتباً وصحفاً ومجلات، موجودة في «نادي حمص» وفي «النادي السوري - اللبناني» في ساوباولو، كما تضم «مكتبة الأسد» في دمشق مجموعة غنية من هذه الإصدارات تبرع بها مهاجر سوري، وقيل إنه طلب إعفاءه من الاعتقال والسماح له بزيارة وطنه الأم في مقابل الهدية الثقافية. وشكلت الانقلابات العسكرية وحكم الوحدة المصرية - السورية الذي كان عسكرياً أيضاً، عنصر طرد للمثقف السوري الذي لجأ إلى بيروت واتخذها منبراً، قبل أن يغادرها بسبب الحرب اللبنانية إلى مهاجر بعيدة. وفي مقابل الحداثيين، هناك مثقفون سوريون، محافظون أو إسلاميون، غادروا هم أيضاً وطنهم إلى المملكة العربية السورية ومصر وبلاد عربية أخرى حيث اندرجوا في الإسلام السياسي وقاد بعضهم صراعاته مع التيارات الليبرالية والماركسية. هكذا يبدو المثقف السوري مفارقاً لأرضه، ينظر إليها ويحس بها من بعد، حتى إذا اقترب لا يعرفها ولا تعرفه. بلاد مجهولة، متعددة ونظنها جسم واحد موحد، وعندما نعرفها جيداً تتبدى كآخر الأوطان المتوسطية بما لها من ملامح تركية ويونانية وعربية ومصرية، وبما يفيض في ثقافتها اليومية من مأثورات متنوعة لم يستطع لجمها أو توحيدها الاستبداد المطبق. نستطيع الكلام على مدرسة سورية في الأدب وفي هيكلية الدولة العربية - الإسلامية ذات الجذر البيزنطي، وكذلك الكلام على نزعة جمالية لا تخطئها العين، بل على نزعة نجومية لدى أهل الأدب، فالكاتب السوري أشبه بنجم سينمائي أو تلفزيوني قبل أن يطغى التعبير بالصورة. الربيع السوري الآن، لا أحد يستطيع تعريفه وتوقع مساره، حتى أولئك الذين يتظاهرون في الشوارع طالبين الكرامة ورافعين شعارات قيل إنها سترجع كرامتهم المهدورة. الربيع السوري مجهول مثلما سورية مجهولة، ربيع يديره قادته من بعد، ويضفون عليه أفكارهم الغريبة وأحلامهم الأكثر غرابة. نفتش عن الربيع في قصائد الشعراء السوريين الجديدة فلا نراه، ولأن الشعر هو الضمير العميق فليس مكانه الآن وهنا، والشعراء لا يعلقون قصائدهم على الاستفهام إنما على يقين الوجدان والروح. أما صناجة الأحزاب فيكتبون ما يسمونه قصائد كيفما اتفق، ويكتبون... هنا لا بد من تحية إكبار لشعراء يعارضون النظام من دون أن يكتبوا شعراً معارضاً. لم يبدأ الربيع السوري بعد، وليس ربيعاً هذا الذي يحدث، على مأسويته وبراءة المشاركين، حيث مطالب شعبية بنقل العبء البشري من نظام لم يرغب في التحمل أو لم يستطع، إلى معارضة تبدي الاستعداد، كلاماً على الأقل، وتوزع وعودها بسخاء، مكرسة ثنائية غريبة: الثورة والرعية. كأن الثورة حاكم مطلق في القرون الوسطى يوزع مكرماته على الناس (أي على العبء البشري) أو يحبسها إذا رغب. الأربعاء 18/1/2012: سهرة الفندق فلاحة قبل شهور، لكنها تغيرت، وبدت فرنسية الإطلالة هذه المرة، مثل نساء في حفلة أم كلثوم، قبل أن يخرب الأميركيون أناقتنا. في سهرة الفندق، رجل وامرأة يسمعان إديث بياف، وينتقدان شعبوية داليدا، على رغم عاطفتها المصرية المتأخرة. في سهرة الفندق، يتأكدان من رحابة مصر، من سطوتها على بشر طارئين وأفكار طارئة. في سهرة الفندق شحنة أمل، قبل اشتداد الصراع في بلاد النيل. الخميس 19/1/2012: تزيين الجسد أصدرت «المنظمة العربية للترجمة» - بيروت، كتاب الفرنسي جورج فيغاريلو «تاريخ الجمال» بترجمة جمال شحيد، و «الجمال» في الكتاب لا يعني الاستطيقا (علم الجمال) لذلك يأتي الإيضاح في العنوان الفرعي «الجسد وفن التزيين، من عصر النهضة الأوروبية إلى أيامنا». من الكتاب هذا المقطع: «توسع انتشار أدوات التجميل في نهاية القرن التاسع عشر، وغيّر تصنيعها من طبيعة الطلب. والأرقام الخاصة بالتعطر تثبت ذلك، إذ قفزت المبيعات من 12 مليون فرنك عام 1836 إلى 26 مليوناً عام 1866، وإلى 90 مليوناً عام 1900. ونشأت «سوق واسعة للتجميل»، الأمر الذي زاد في تطوير التفنن، وعمم مع انتهاء القرن صورة لجمال مشيَّد بقي عصياً على التحديد خارج مجال الموضة ومقتضياتها. وخلق المخزن الكبير هذا الإطار وأحدث ثورة في تجارة «الملابس والكلف»، بدءاً من 1860، كما في محل وايتلي في لندن أو محل مارشال فليدز في شيكاغو. وبطريقة في البيع تعتمد على «الربح الصغير»، أثّر في الجوار وأيضاً في الفروق الكبيرة بين المنتجات المتوافرة في المكان نفسه، فتوفر عام 1890 أكثر من 200 صنف من المنتجات المباعة، كالفساتين والمشدات والمستحضرات والعطور، وكان يتهافت يومياً على مخزن بون مارشيه حوالى 15000 زبون. ولا شك في أن عدداً من التغيرات جعل العملية ممكنة: النمو العالي في الصناعة ومنتجاتها، ونمو الدعاية في الصحف، ونمو شبكات النقل في المدن، ونمو شبكات السكك الحديد. ونجم عن ذلك ارتفاع كبير في أرقام المبيعات. ووُصف المخزن الكبير بأنه «عملاق» و «برج بابل» و «قصر حكايا الجنيات» و «وحش مغوٍ»، وكان المكان الأول الذي استغل الرغبة في الغندرة والتجميل في شتى تنوعاتها. وامتد فن الأنوثة على مدّ النظر. والعبارات التي استعملت فيه إبان العقد الأخير من القرن التاسع عشر بحثت طوعاً عن الاستهلاك النسائي، كما ذكر زولا عندما صرّح موريه مدير مخزن «بونور دي دام» بكلمات تفيض بالحماسة: نحن نضع «النساء تحت رحمتنا، نفتنهن، فيُصبن بالجنون أمام أكوام بضائعنا، فيفرغن جزادين نقودهن من دون حساب»، وهكذا تتحقق كل رغبة جمالية، مما دفع زولا إلى رسم صورة لكنيسة جديدة وكاتدرائية مصنوعة من الزجاج والفولاذ، حلّ فيها استثمار الرغبة والجمال محل أشكال الخشوع الديني القديمة: «الكنائس التي هجرها الإيمان تدريجاً حلّ محلها بازار هذا الإيمان، واستوطن نفوساً أصبحت شاغرة». ومن دون شك حصل الهيجان الاستهلاكي الأول الذي رأى فيه زولا ترسيمة الحداثة، قال: «تحوّل هذا إلى دين للجسد والجمال والغندرة والموضة». وحدث أيضاً الترتيب التجاري الأول الذي ارتبط، وبطريقة شبه موحدة، بعرض هائل للجمال. وفي المعرض العالمي الذي أقيم عام 1900، قدّم بون مارشيه محلاته، على أنها «إحدى الطرائف الأكثر تميزاً في باريس»، فجذبت الزيارات والتعليقات وأمّنت وجود مترجمين فوريين ومرافقين». الجمعة 20/1/2012: آلة الزمن لم يخطئ شبلي الملاط حفيد «شاعر الأرز»، الذي حمل اسمه، ونجل المحامي اللبناني والوزير السابق وجدي الملاط، حين تعلم الفقه الإسلامي ثم تولى تدريسه في جامعة أكسفورد. ولم يكن غريباً أن يحظى صديقنا رضوان السيد ببعض الحسد عقب نيله شهادة العالمية من الأزهر والدكتوراه من ألمانيا فامتلك الحسنيين، معرفة الفقه الإسلامي وما يتعلق به والإطلاع على المناهج الغربية. ووافق تخرج رضوان السيد المدّ الإسلامي السياسي فصار مرجعاً له في لبنان والعالم العربي. والتقيت أخيراً في القاهرة قائداً يسارياً فأبدى تقديره للبرنامج الاقتصادي - الاجتماعي لحزب النور السلفي، ورآه متقدماً على برنامج الإخوان المسلمين الذين يكتفون بالإيديولوجيا ويهملون المطالب المعيشية. ولاحظت إقبال الأصدقاء المصريين على قراءة الفقه الإسلامي وما يتعلق به، وتخصيصهم لذلك جلّ وقتهم، في محاولة لمواكبة السجال الذي يتصدره الإسلاميون ويفرضون عليه أجندتهم و «لغتهم». كأن الأصدقاء يستقلون «آلة الزمن» للعودة إلى القرن الرابع الهجري، حيث يتزودون بما يعينهم في مواكبة، أو مواجهة، نخبة إسلامية أوصلتها الانتخابات إلى الحكم. «آلة الزمن»، رواية البريطاني هربرت جورج ويلز، تحولت عندنا إلى باص يحملنا إلى الماضي، ونرمي من نوافذ الباص كتب حداثة صارت عبئاً. «آلة الزمن»، قال أحد الخبثاء، ستوصلنا إلى أبينا آدم وأمنا حواء في بدء إقامتهما الأرضية. هناك سنأكل الكثير من التفاح لنعود إلى الحاضر وقد تزودنا بأساس المعرفة الذي هو السؤال. بعد ذلك لن يأسرنا إسلامي سياسي ولن تطغى علينا حداثة معلّبة.