على أحد الجدران مقابلَ مدينة مَعَرّة النُّعمان، في الطريق الواصل بين دمشق وحلب، كُتب شعارٌ يقول: «سنسحق عصابة الإخوان المسلمين العميلة للإمبريالية والصهيونية»، كان هذا الشعار وأمثاله نتاجَ وقائع ما سمي في اللغة السورية ب «الأحداث»، التي تحيل إلى الصدام الدموي بين نظام البعث والإخوان المسلمين السوريين (1979 - 1982) الذي انتهى باستيلاء النظام على السياسة وإقصاء جميع السوريين من المجال العام، وتقليص مظاهر التدين من الحياة العامة؛ لأنها كانت تثير شبهة «الإخوانية». لم يَدُم ذلك طويلاً؛ ففي نهاية عقد الثمانينات انهار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية بما مثلته من عقيدة شكّلت الحليفَ القوي للنظام السوري البعثي، وطرح انهيارُه شكوكاً كبيرة حول العقيدة الاشتراكية وإنجازاتها المجتمعية، وأفسح المجالَ لصعود أطروحة «البديل الإسلامي» مع حركات الإسلام السياسي التي كانت تشهد زخماً كبيراً، سواء على مستوى السلطة مع انتشار الثورة الإسلامية الإيرانية وصعود حركات المقاومة الإسلامية الفلسطينية التي تحالف معها نظام الأسد، أم على مستوى موجة التدين الشعبي التي اتسعت مظاهرها بفضل نشاط الدعاة الإسلاميين وتقويضهم - جماهيريّاً - لأطروحات خصومهم من الماركسيين والعلمانيين. أدرك النظام أن عَزل السوريين عن موجة «الصحوة الإسلامية» لم يكن ممكناً أو مُجدياً، فانتهج سياسة التمييز بين العداء للدين والعداء للإخوان، فاستأصل الوجودَ الإخواني وعاقب على تهمة الانتماء لهم بالإعدام قانوناً، وقام بشيطنتهم باعتبارهم «عملاء للإمبريالية والصهيونية»، وهي التهمة التي كان يُجبَر بعض طلاب المدارس على تردادها في الشعارات (الوطنية) الصباحية من دون وعيٍ بمدلولها أو حتى معرفةٍ بخلفياتها! وبما أن مظاهر الصحوة الإسلامية الصاعدة شعبيّاً شكلت رصيداً للحركة الإسلامية عموماً والتي كان النظام يناصبها العداء المطلق، قام بتشجيع إسلام آخر هو الإسلام الصوفي، ليسيطر على توجهات المتدينين ويضمن انحصارها في التدين الشعائري وعدم انزلاقها نحو الاهتمام بالمجال العام أو الأهداف السياسية، وفي هذا الخصوص قام بدعم بعض الرموز الدينية في سورية، بخاصة تلك التي عُرفت بعدائها للإخوان المسلمين، أمثال المفتي الشيخ أحمد كفتارو ود. محمد سعيد رمضان البوطي، وهما الشخصيتان الصوفيتان اللتان عرفهما الجمهور السوري، فالأول أسس أكبر جماعة سورية وكان لها نشاط كبير وواسع، والثاني عبر ظهوره على الشاشة الرسمية مطلع التسعينات في درس أسبوعي بعنوان «دراسات قرآنية»، وعبر درسيه الأسبوعيين في مسجد «تنكز» ثم «الإيمان» اللذين كان يحتشد له فيهما الألوف. طالما نهى كفتارو تلامذته ومريديه - علناً - عن الانشغال بالشأن السياسي، وأبدى الاحترام والتقدير لشخص الأسد الأب، ونصَّ في وصيته لأتباعه على «الالتزام التام بمنهج سيادة الرئيس بشار الأسد وحكومتنا الوطنية». جدل ونقاش أما البوطي فقد أسس خصامَه للعمل الحركي الإسلامي قديماً في كتابه «الجهاد» (1993) حينما فرّق بين مفهوم «الدعوة» وعمل «مَن يسمَّون بالإسلاميين أو الجماعات الإسلامية»، فعَمَل هؤلاء - في فهمه - «ليس أكثر من أنشطة تدور حصراً بين أفرادها أنفسهم» للوصول إلى مناطق الحكم والنفوذ. كتابه هذا وإن حمل عنوان الجهاد؛ إلا أنه خصصه فقط للمسائل التي هي «مثار جدل ونقاش، لارتباط واقع كثير من المسلمين أو الإسلاميين به»، ومن هنا عبّر الكتابُ عن تصورات البوطي لمفهوم الجهاد وموقفه من الحكام والإسلاميين، فموقفه من الحكام كان واضحاً حين قال: «لا يجوز في ميزان الشريعة الإسلامية الخروج على إمام المسلمين ورئيسهم مهما ظهر منه الجور أو الفسوق»، وهو يقف – صراحة – في صف الحكام ضد الإسلاميين، حينما يقول: إن مخطط التآمر الغربي على الإسلام يقوم على (سياسة التفكيك والتجزيء) بين الدول بعضها ببعض، وبين الحكام والمحكومين، وإن هذه السياسة محلُّ يقينٍ من الحكام والقادة، ولكن «لا خيار لهم في الأمر؛ إذ إنهم في موقع الرد والدفاع لا في موقع التحرش والهجوم»، بل يتقدم خطوة إلى الأمام في النقاش ليقرر لاحقاً أن «أعمال هؤلاء الإسلاميين [جبهة الإنقاذ الجزائرية خاصة] هي في ظاهرها خروج على الحاكم، ولكنها في الحقيقة خروج على مبادئ الإسلام وأحكامه الواضحة التي هي محل اتفاق». بدا الكتابُ ثمرة تتويج عهد جديد في صلة البوطي بنظام حافظ الأسد الذي يرد ذكره في الكتاب، فالبوطي يتبنى الرواية الرسمية «للأحداث» قائلاً: إنها «عمليات هجومية وانتقامية ضد نظام الحكم في سورية بل ضد عوامل الاستقرار»، ويضيف إليها كذلك أحداث الجزائر التي كانت نتاج انتخابات حرة، وهو لا يكتفي بذلك بل يسبغ على رؤاه الخاصة دمغة «حقائق الإسلام» معتبراً أن ممارسات هؤلاء تدخل في باب «الحرابة» التي يُعتبر قمعها «واجباً على الحكام والفئات الشعبية معاً»، معنى ذلك - كما هو معلوم فقهاً – سلب هؤلاء أي حق، وتعقبهم واستئصالهم كلية. كانت هذه العودة لتصورات البوطي ضرورية لفهم مواقفه من الثورة السورية اليوم التي يناصبها العداء الشديد، حتى بلغ به الأمر أن أفتى بأن «التظاهرات أخطر أنواع المحرمات»، ووصف المتظاهرين بالحثالة، وأنهم ينتعلون المساجد، وتصدى أكثر من مرة للرد على الشيخ القرضاوي المؤيد للثورات بعامة، متهماً إياه بمخالفة «حقائق الإسلام»؛ لحسابات حزبية ضيقة، في إشارة لخصومته مع الإخوان. موقف البوطي ليس بجديد، فهو استمرار لتصوراته ونتاج عقلية مركبة من جملة مكونات، أحد أركانها علاقته الشخصية بالراحل حافظ الأسد الذي قال عنه في تأبينه: «إن باطن قائدنا الراحل كان خيراً من ظاهره»، والمرء لا يكون كذلك إلا وهو شديد الصلة بالله، دائم المراقبة له؛ فهو يكاد يصوره شخصية صوفية «ربانية» بامتياز! وعلاقته بالسلطة أصبحت علاقة طبيعية بحكم عوامل الديمومة والتشابه الفكري، فكلاهما مسكون بفكرة المؤامرة على الدوام، والفكرة المركزية التي تشكل مفتاح فهم عقلية البوطي وتتناسل منها كل تصوراته ومواقفه، هي فكرة تَرَبص الغرب للإسلام ومحاولة تفتيت الحضارة الإسلامية، وهي الفكرة التي تحكم تفسيراته، وتضعه في صف «فقيه السلطة» بامتياز، فهو لا يكتفي بتحريم الخروج على الحاكم مطلقاً، ولا يحصر وظيفة المعارضة بمجرد النصح فقط، ولا يعطل كل الحقوق بحجة مواجهة المؤامرات الخارجية التي تحيق بالإسلام، بل يذهب في كتابه «يغالطونك إذ يقولون» إلى وضع شرط لصيانة الدولة للحريات وهو أن يتبين أنه ليس هناك وحي خارجي يقود المعارضة فإن تبين ذلك يجب مصادرة الحريات، وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد! يتميز البوطي بفهم عجيب للإسلام الذي يخضع للتآمر والمكائد على طول الخط، فحتى اغتيال الحريري كان له هدف بعيد – برأيه - هو القضاء على الإسلام، وكذلك الثورة السورية؛ لأن سقوط نظام بشار الأسد هو سقوط للإسلام. بيان ذلك برأيه هو أن سياسة سورية مستهدفة في الحالتين؛ نظراً إلى ما تمثله من عقبة كأداء في وجه السياسات الغربية بدعمها للحقوق العربية، والوسيلة إلى ذلك - وفق السياسة الأميركية - جرّ سورية وإرباكها عبر قضية مقتل الحريري، أو بتفتيتها عبر إسقاط الأسد، وللتذكير هنا فهو يصرّ على أنه إنما يمارس بهذا فعلاً دينيّاً لا سياسيّاً. ولكنه وهو يمارس فعلاً دينيًّا لا يخبرنا عن سبب تناقضاته في القضية الواحدة، قبل وبعد الاحتكاك بالسلطة أو الاستجابة لإملاءاتها المباشرة أو غير المباشرة، ففي كتابه «إلى كل فتاة تؤمن بالله» (1973) كان قد انتهى إلى القول: «ثبت الإجماع عند جميع الأئمة أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن الفتنة مأمونة اليوم؟!»، ولكن بعد أن قرر النظام السوري محاصرة النقاب في المؤسسات الرسمية، كتب البوطي مقالاً في صحيفة «الحياة» (19/6/2010) يتحدث فيه عن سلم الأولويات، وأن على المرأة «أن تؤثر فائدة وظيفتها على فائدة التمسك بنقابها»، بل يذهب أبعد من ذلك إلى القول: إن تمسكها في هذه الحالة بنقابها هو من حظوظ النفس! ثم عاد فقال عبر التلفزيون السوري (6/4/2011) إن الرئيس استجاب لمطالب الإصلاح، ومنها إعادة المنقبات! ومن تناقضاته كذلك، حملته الشعواء على مسلسل «ما ملكت أيمانكم» في بداية عرضه بأنه يستجلب سخط الله وأنه مكيدة للإسلام؛ استناداً إلى منامٍ رأى فيه «بقعاً سرطانية حمراء ستهلك الأمة في حال استمر عرض هذا المسلسل الذي يسخر من الدين»! ولكن بعد أن وُوجه بضغوط، بخاصة مع استقبال الرئيس فريق العمل في رمضان وتشجيعه الدراما السورية، عاد وتراجع عن حملته تلك، بحجة أنه تبين له أن المخرج يعمل لمصلحة الإسلام، ثم عاد في خطبة الجمعة (5/4/2011) فاعتبر أن الاحتجاجات التي تشهدها سورية هي عقاب إلهي على عرض المسلسل! علاقة مرتبكة ارتباك مواقف البوطي يُحيل إلى علاقة مرتبكة تخضع لتجاذبات الدين والسلطة في شخصه، فهو عامةً يميل إلى الاختيارات الفقهية المذهبية المتشددة، ولكنه يجد نفسه مضطرّاً في بعض الأحيان إلى استخدام العقلية الذرائعية التي تستخدم بعض الحجج الأصولية (من أصول الفقه) في مواضع تَمَاسّه مع السلطة السياسية، ففي تحريمه للتظاهرات المعارِضة استند إلى أن «التظاهرات تحولت إلى أمور تخريبية وإلى سفك للدماء البريئة»، وبالتالي فهي ذريعة لارتكاب المحرمات، وفي سياق ترجيحه لخلع النقاب اضطر للرجوع إلى «فقه الأولويات» الذي هو منهج خصمه القرضاوي، بل إنه في سياق الحديث عن المؤامرة الغربية على الإسلام ممثَّلاً بالنظام السوري، يطلب إلى ضحايا قمع النظام أن يطووا مصالحهم الجزئية في سبيل المصلحة العامة وهي بقاء النظام، قائلاً: علينا أن «نضحي بالتحسينات في سبيل الإبقاء على الحاجيات، وأن نضحي بالحاجيات في سبيل الإبقاء على الضروريات»، فيستخدم منطق المقاصد في سبيل دعمه للنظام السياسي، وهو لا يُعرف عنه استعمال المقاصد التي أصبحت – وفق التفكير التقليدي الذي ينتمي إليه – سمة المتلاعبين بالدين! ومما يثير التأمل في عقلية البوطي هو ذلك الاستسلام للسلطة السياسية وعدم الجرأة على مساءلة أفعالها، فهو يسلم باستمرار بأن أوامر السلطة لا يمكن دفعها، ومن ثم فهو لا يوجه خطابه إلا إلى الناس ويسائل تصرفاتهم التي وحدها تقبل التكييف، وهذا ما يوقعه في تناقضات عدة بسبب تغير مواقف السلطة بفعل عوامل عدة يجد نفسه مضطرّاً للتقلب معها كما حصل في النقاب مثلاً. وتَعَطُّل عقليته النقدية حينما يتعلق الأمر بالسلطة نجده مثلاً في جوابه على من سأله عن حكم من أُجبر على توحيد غير الله، وأُكره على القول: إن ربه هو الرئيس، أجاب: «لماذا تسألني عن النتيجة ولا تسألني عن السبب؟ أليس السبب هو خروج هذا الشخص مع المسيرات إلى الشارع والهتاف بإسقاط النظام وسبّ رئيسه والدعوة إلى رحيله؟»، ولكن البوطي يتجاهل هنا أن التظاهرات نفسها هي نتيجة لسبب عليه التفكير فيه! والأمر نفسه يقال فيما يتعلق بالتظاهرات التي ترتب عليها سفك الدماء، ما جعله يحرم التظاهر ويسكت عن الذين يسفكون الدماء! وإذا كان البوطي يصرّ - باستمرار - على التمسك الحرفي بنصوص الفقهاء وتعاليمهم التي تمثل الإسلام الصافي، فإنه لا يفتأ يقتطف مقتطفات «أيديولوجية» من الكتابات الغربية لإثبات حجم التآمر على الإسلام، وكثيراً ما يتحدث بلغة «الوثائق» التي لا ندري مصدرها وصحتها وصحة الاستدلال بها، فهو يقول مثلاً: «استطعت أن أحصل على كثير من الوثائق والتقارير التي تفيد بأن أعداء أمتنا لا يريدون الخير المادي لنا، ولا حتى ازدهار حضارتنا ولا ينتمون لأي قيم إنسانية سليمة»، ولتوضيح نوعية الوثائق التي يحصل عليها، لا بد من التذكير بأنه مع انطلاق قناة الجزيرة (1996) ومناصبة الأنظمة العربية العداء لها، خرج البوطي معلناً في جامع تنكز أن لديه «وثائق» تدل على أن الجزيرة صهيونية! المكون الثالث من مكونات عقلية البوطي انعدامُ مساحة الرأي عنده، وأحادية تصوره للإسلام وعلومه على أنها جملة من الحقائق المطلقة الناطقة بلسانه هو، فحتى الفقه هو وحي من الوحي، ومن ثم هو يسخر من كلمة مفكر وفكر إسلامي، ويعتمد إطلاقية وثوقية ذاتية لا يرقى إليها شك، فهو يرى - دائماً - أن إجاباته حاسمة، وأن كتاباته من شأنها أن تنهي أي خلاف وتزيح أي شبهة، قائلاً: «إن الصراع بين الأفكار الإسلامية المتناقضة لا ينهيه إلا شيء واحد هو أن تصمت الأفكار وتُستَنطق الأحكام الفقهية المعتمدة من جمهور العلماء»، وهذا ما يفسر أسباب عناده على آرائه، وتماديه في مواقفه على رغم كل شيء! يقدم البوطي مثالاً نموذجيّاً على «الفقيه السلطاني» في ظل الدولة القطرية، غير واعٍ بحجم التناقضات الداخلية التي يقع فيها والتجاوزات الشرعية التي يرتكبها وهو يحسب أنه لا ينطق إلا بحكم الله، كما أنه يبرهن على أن غياب الحد الأدنى من الوعي السياسي من شأنه أن يُسخر الفقه لخدمة السلطان حينما يُقحم نفسه في مسائل الشأن العام، ويوضح كيف أن الاستبداد لم يستقر أمره إلا على فقه سلطانيّ داعم يمارس استبداداً في الحقل الديني حينما لا ينطق إلا عن الله في مسائل الدين، وفي الحقل السياسي حينما يَزعم فقهًا بحكم الله في مسائل السياسة والشأن العام، وفيهما معاً حينما يمزج بينهما ويُخَيَّل إليه أنه يقوم بوظيفة دينية بحتة! * كاتب سوري