«ل م ا ذ ا ل م ت س أل م ن ق ب ل؟» ظهرت هذه الحروف في جفنيها ما إن أغمضتهما، كتبت جملتها «لماذا لم تسأل من قبل؟»... وغفت. لا تعرف حتى اليوم إذا ما كانت سألت السؤال في الحقيقة أم لا؟ وسؤالها كان رداً على معاتبة الزوج: «ما بي أراك صامتة هذه الأيام؟ هل من مشكلة؟». أرادت الرد بسؤال عن توقيت اطمئنانه «المفتعل» قبل لحظات من خلودهما إلى النوم. طرحت سؤالها بالطريقة العصرية التي باتت تطبع محادثاتهما، والتي تكاد تكون بمعظمها صامتة، إلاّ من صوت أظافرها تضرب على لوحة مفاتيح الكومبيوتر. هذا الصوت الذي لطالما انتقدها عليه: «من دون أن تدركي تستخدمين أظافرك للطباعة بدلاً من أصابعك». ليست المرة الأولى التي تقع فيها حائرة بين حقيقة طرحها قضية ما ووهمه. هي التي إعتادت الطباعة أكثر من الكلام، لدرجة أنها باتت مقتنعة أن في إمكانها تمييز «خطها» المطبوع من بين عشرات الصفحات المطبوعة. ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المحادثات في بناء علاقتهما بشكل كبير، بسبب وجوده خارج البلاد. واستمرت في مؤازرتهما بعد عودته كوسيلة تواصل طوال أيام عملهما، قبل أن يدخل البلاك بيري على حياتهما ويتهمها بأنها باتت «تحيا برفقته». اتهام ما لبث أن بطُل بعد قراره أن يماشيها بإقتناء هاتف مماثل، قبل أن يقتنع ويقنعها بالانتقال إلى ال I GENERATION. هكذا تغلغلت الأجهزة الحديثة في حياتهما، وسقط الاتهام الأول، من دون أن تكلّف نفسها عناء الدفاع عن نفسها. «ذكاء» الأجهزة بين يديهما، حلّ مكان الكثير من الأحاديث التي كانت تنشأ، والسبب غير محصور بالضرورة بفقدان الرغبة بالحديث، وإنما بسبب تواصلهما الدائم عبر مختلف برامج المحادثة، ما يُفرغ سلّة «خبريات» اليوم، فكأنهما يعيشان نقلاً مباشراً طوال الوقت. ولكن ما يبقى لافتاً تراجع الاتصال في ما بينهما، على رغم وجود برامج محادثة مجانية عبر الصوت والصورة أيضاً، من دون أن يستخدماها إلاّ في حال سفر أحدهما. هو المشهد يأخذ طابعاً كاريكاتورياً عند عودتهما إلى المنزل، إذ يكثر «زوارهما» من وسائل التكنولوجيا، ويأخذ كل منهما زاوية من المنزل، هو مع كومبيوتره المحمول وهاتفه الذكي، وتقابله هي والآي باد خاصتها وهاتفها المماثل لهاتفه إلاّ في اللون، فضلاً عن هاتف المنزل... ليتحول الحديث بينهما تكراراً لنكتة وصلت بشكل عاجل، أو لحديث مع أحد الأصدقاء أو الصديقات عن مشروع لقاء محتمل. وحده بكاء طفلتهما أو تململها في سريرها، يلقي بأدواتهما التي يحيط بها الكثير من الألعاب الالكترونية. الطفلة التي باتت تتسمّر ما إن ترى أحد هاتفيهما مشهوراً في وجهها محاولاً التقاط الصور لكل دقيقة من عمرها الذي لم يتعد الخمسة أشهر. هي طفلة ال I GENERATION، تُسمعها والدتها الموسيقى عبر الآي باد الذي باتت أضواؤه وأصواته تستقطبها أكثر، وبخاصة منذ سفر والدها الذي يظهر من على هذه الشاشة ليُحادثها عبر «السكايب». وإن كانت عينا طفلتهما تتسمر على أصابع والدتها تتحركان بسرعة على لوحة من أمامها، أو على ضوء يأتي من جهاز صغير يحمله والدها، أو بسبب مكالمة لا تنتهي، فإن نظراتها توحي وكأنها تريد السؤال عن هذه الادوات التي تسرق نظر والديها منها، أو إحدى أيديهما، والتي يعودان إليها في كل مرة ينجحان في صرف نظرها الصغير عنهماٍ. مشهد تكنولوجي سوريالي يطبع حياتهما، تماماً كما يفعل مع الكثير من أمثالهما، وبعد أن كانت تتلقى الاتهامات ب «الحياة في كنف البلاك بيري خاصتها»، أصبح المشهد أكثر طبيعية بينهما، وبخاصة عندما بات «المشكل» الذي يكبر بينهما لأسباب تافهة أحياناً بسبب نبرة أحدهما، يُحل في مناقشته بواسطة أحد برامج المحادثة، إذ يطبعها الصمت الذي يمتص الاحتقان الحاصل، الذي مهما كبُر يبقى بعيداً من العين والأذن، فتصفو النفوس... حتى إشعار آخر!