يروم الروائيّ السوريّ موسى عبّاس في روايته «بيلان» (بيسان، بيروت، 2011) الاشتغالَ على الجوانب الجغرافيّة والتاريخيّة، بالتزامن مع التحليل الاجتماعيّ لبنية مجتمع طاوله العسفُ والتغيير، واجتاحته الفوضى الغارقة، والانقسام المدمّر. يختار عبّاس لروايته فضاءات مكانيّة وزمانيّة منفتحة على آفاق مستقبليّة، حيث كلّ جانب يحمل بذور الضدّ بين جنباته. وهو إذ يعنون روايته ب «بيلان»، يشير إلى الممرّ الفاصل الواصل بين شطري القرية، الممرّ الذي يفصل القرية، يغدو مسرحاً حاضناً للأحداث، ومرتكزاً وشرارة للحكايات. وبيلان لا يكتفي بشطر القرية، بل ينقل عدوى الانشطار إلى الأهالي، يُعدي بمفعوله البشر، يكون فاعلاً في تشظيته الأرواح والأجسام، وهو وإن كان مقدَّماً على أنّه المعبر والجسر، إلاّ أنّه يحتلّ الواجهة، ويتقدّم بهامشيّته التي تلازمه، ليتصدّر الوقائع، ويفجّر السكون والهدوء، ويفتح باب التأويل. يحرص الكاتب على تقديم الجوانب المختلفة من حياة القرية التي تسودها البساطة والطيبة، متنقّلاً بينها وبين حياة المدن المعقّدة، ثمّ الإرباكات التي تجتاح الشخصيّات، فتبدّدهم، ويكون في استعراضه العوالم المتقابلة، مع التركيز على ما بينهما من تداخلات في العالم الوسيط الذي يتمرأى باستقلاليّته المؤثّرة، ليكون هو العالم الذي ينبغي مواجهته، لأنّه الأكثر فاعليّة وتأثيراً. و«بيلان» يحمل دلالات تاريخيّة وإسقاطات معاصرة، وهو ممرّ تاريخيّ شهير يفصل بين جبلين هما الجبل الأحمر في الجنوب وجبل النور في الشمال، وهو الممرّ الوحيد بين جبال الأمانوس على الساحل السوريّ، منه مرّت جحافل الآشوريّين والفرس والروم والعرب المسلمين بقيادة ميسرة بن مسروق العبسيّ، ومنه عبرت الحملة الصليبيّة الأولى والمماليك والتركمان والمغول وصولاً إلى جيش إبراهيم باشا. وهذا وفق توصيف صالح لحبيبته الروسيّة ميرنا، حيث يفسّر لها ولنفسه وللقرّاء تأويلات العنوان، وهي غارقة في أحلامها، وربّما في بيلانها، يخبرها أنّ لكلّ مدينة بيلانها، وفي قريته بيلان، جسرٌ بين عالمين، وكثيراً ما سأل نفسه من أين لأهله هذا البيلان؟ ويسبق ذلك بتخمين: «ربّما أراد أهلنا أن يكون لهم بيلانهم، بيلان آخر، وربّما وصلوا إلى بيلان وعرفوه خلال نزوحهم الكبير إلى سهل العمق غربي حلب في بعض سنوات الجدب التي دهمتهم غير مرّة، فقاوموا الموت بالهجرة». شخصيّات منشطرة يمارس بيلان دور المموّه المقسّم، يستدرج للتفرقة والتشظية، يسِم أهل القرية بصفاته، يزرع فيهم هُوى يستحيل تجسيرها، كما يخلق بينهم فروقات وفجوات وشقاقات لا تنتهي يصعب ردمها أو تجاوزها... الحاج جاسم الذي لم يستكمل مناسك الحجّ، ولم يؤدِّ الفرض، يعود بعد غيبة، طالباً مناداته بلقبه الجديد، يكون الحاج نموذجاً للقرويّ الساذج الذي يتّخذ اللؤم البسيط آليّات دفاعيّة هجوميّة في حياته، يرسل ابنه صالح للدراسة في حلب، يتخرّج صالح في ما بعد مهندساً يعمل في الشركة التي تشيّد سدّ الطبقة؛ التي تغيّر اسمها إلى الثورة. يذهب الحاج إلى حلب برفقة حسين، الملقّب بحسينوه، الذي يعرف حلب بالتفصيل لأنّه كان قد خدم فيها خدمته الإلزاميّة، ليساعده في تجهيز ابنته نجمة الرائعة الجمال التي يخطبها ابن المختار، الذي لا يلبث أن يطلّقها بعد زواجه بها بفترة قصيرة. تكون لزواجها وترتيباته قصص ومفارقات مضحكة مبكية، إذ يتعرّض الحاج في حلب لعملية سطو وتشليح، يُسرَق منه مهر ابنته، ويعود خالي الوفاض، بصندوق فارغ وأسى كبير يتسبّب له بمشاكل نفسيّة كثيرة لاحقة، الحاج كان برفقة حسينوه الذي ارتاد منطقة مشبوهة، ولم يستطع مغالبة تأنيب ضميره له، فوقع صريعَ حالات تلبّسته ولم تتركه إلّا معتوهاً أو شبه معتوه. وحسينوه الذي تربّى يتيماً، يعرَف بسلاطة لسانه وديناميّته، يتحدّى الجميع ولا يتوانى عن تقديم المساعدة سواء طلبت منه أو لم تطلب، يقدّمه الروائيّ بحلل متباينة، تارة يكون غاية في الغباء، وتارة أخرى غاية في اللؤم والدهاء، يبدو حمّال تصوّرات الكاتب، والبطلَ المُضحَّى به على مذبح الفقر والجهل والجوع والضياع والفتنة. يتفاجأ حسينوه بتسليمه منصباً في الطاحونة التي تدشّن في القرية، تترقّى مكانته، ويكتسب أهميّة، ثمّ يتفاجأ بينما يدير عمله في الطاحونة بسيّارة غريبة عن القرية تمرّ به، يستدعيه السائق ليدلّه إلى جزيرة قريبة من القرية تقع على الفرات، يكون وقع المفاجأة كبيراً عليه، وهو يكتشف بعد حيرة وتبلبل أنّ الشقراء الجميلة التي في السيّارة هي المطربة صباح، وأنّ الذي بجانبها هو الموسيقيّ فيلمون وهبي، ويفلح في مطابقة الصورة بالصور السينمائيّة التي اختزنها في ذاكرته منذ أيّام خدمته في حلب وارتياده دور السينما فيها باستمرار. وفي تلك الجزيرة يتفاجأ حسينوه بجمالها وتأثيرها، وبالأجواء الكرنفاليّة التي شاهدها واستمتع بها مع السيّاح، وتكون تلك اللقطات البريئة شرارات لآلام لاحقة تخبّئها الحياة له. ينتقل من مرحلة إلى تالية، يرتحل من قريته إلى بيروت، ليعمل فيها، وهناك يتعرّض لسلسة من الابتزازات، يتعرّف إلى أجواء بيروت الصاخبة، وعوالمها الغرائبيّة الساحرة بالنسبة اليه، يخالط طبقات مختلفة، يصوّر جوانب من حياة العمّال السوريّين، ثمّ جوانب من حياة شرائح نخبويّة في المجتمع البيروتي. ثمّ يعود بكمّ كبير من الآلام والآمال إلى قريته التي ستجتاحها مياه السدّ، وتتحوّل إلى قرية مغمورة، ويغدو أهلها معروفين بالمغمورين، تنثرهم السلطات بين مناطق مختلفة من الرقّة، والحسكة، فيما يعرَف في منطقة الحسكة باسم «الحزام العربيّ». حسينوه الذي يتزوّج بنجمة، يقع ضحيّة قيمة سلبيّة متجذّرة في المجتمع، قيمة تسود حين يتراجع القانون، إذ ينتهي به الأمر مقتولاً في حادثة ثأر، إذ يثأر بعضهم منه لأنّ ابن عمّه قتل أحدهم. هذا مع ملاحظة أنّ الكاتب ركّز بداية على يتمِه، ثمّ يتفاجأ القارئ في النهاية بأنّ لحسينوه أعماماً يضطرّ لحمل أوزارهم، ودفع حياته ثمناً لجرائمهم وخطاياهم. ثمّ تنجب نجمة التي يتزوّج بها بعد مشقّات كثيرة، والتي كانت حلم حياته، ابناً تسمّيه حسينوه، يعيش في كنف خاله صالح الذي ينأسر لعشق الروسية ميرنا ابنة المهندس الذي عمل معه في المشروع، ميرنا التي تحتلّ كيانه وتفكيره، تعبّر عن علاقة حبّ لا تكتمل، وعن تبدّد بين عالمين وحضارتين. تسريب وتناصّ كأنّ الروائيّ يودّ ضخّ أكبر قدر ممكن من المفارقات والحوادث والتداعيات والإشكاليّات وتسريبها بين ثنايا روايته، يستعمل أسلوباً قصصياً في سرده، ليكون الفضاء القصصيّ طاغياً، والسرد متشظّياً متأرجحاً بين مستويات متباينة تلائم حالة الشخصيّات. تهيمن ظلال الروائيّ السوريّ عبدالسلام العجيليّ، ولا سيّما في روايته «المغمورون»، وفي أعمال أخرى فصّل فيها الحديث عن البيئة الشعبيّة، على موسى عبّاس في «بيلان»، ويبدو أنّ هناك تناصّاً رغبويّاً من جانب عبّاس بمحاكاة عوالم العجيليّ الروائيّة، سواء من جهة الانتصار للثقافة الشعبية أو من جهة الحوامل الفكريّة، وحتّى من جهة المرحلة الزمنيّة نفسها، نجده يستشهد به في هامش من هوامشه المتعدّدة، وذلك حين يدور الحديث عن عدم جدوى أدوية الطبيب في معالجة الحالات المستعصية على الطبّ، ويذكر الكاتب في الهامش أنّ المقصود بالطبيب هو العجيليّ. كما يكون تصويره أيضاً من الزاوية نفسها، الاكتفاء بنقل بعض ملابسات وحالات نقل المغمورين وترحيلهم من مناطقهم وقراهم، تبعاً لأوامر سلطة متسلّطة، وتصويرهم مظلومين، في حين تمّ تهميش الجانب الآخر وإهماله، ولم يتمّ التطرّق في أيّ شكل من الأشكال إلى الطرف الذي تمّ إحلال المغمورين في أرضهم، ليصبح المغمورون غامرين بفعل تراكميّ ودعم سلطويّ. ولا يغفل عبّاس عن إبراز بعض التواطؤ من جانب أبناء المنطقة نفسها، كأحمد الذي ساهم بقسطه في المسألة، وكوفئ في ما بعد بتسليمه منصباً هامّاً في المحافظة. يعتمد عبّاس «بيلان» على الاستذكار والاسترجاع واللقطات السريعة، يقتفي التغيّر الديموغرافيّ الذي واكب واستتبع التغيير الجغرافيّ، الذي كان من شأنه تبديد الأهالي وتشتيتهم وتفريقهم، ناهيك عن تغييره معالم الأرض والبشر سواء بسواء. يستحضر قضيّة الأرمن، وتشرّدهم، بنوع من المحاكاة للتشرّد اللاحق بأهل القرية، ثمّ يستذكر التقسيمات اللاحقة التي أفرزتها التحوّلات العاصفة، وخطورة الفترات الانتقاليّة المفصليّة، حيث المرارة التي تتجلّى في احتمال اللجوء إلى نبش قبور الأموات لإعادة دفنهم، كنوع من التشبّث بالجذور والأهل، وكردّ على عنف الممارسة.