فتحت السلطات الفرنسية وللمرة الأولى ابواب منشأة لتخصيب وتكرير الوقود النووي من يورانيوم وبلوتونيوم، محاذية لمدينة أوراتج (جنوب) امام مجموعة من الصحافيين العاملين في وسائل إعلام فرنسية ودولية. وبخلاف الزيارات التي تنظم عادة للتعريف والترويج للمنشآت الصناعية الكبرى، فإن هذه الزيارة التي نظمتها الرئاسة الفرنسية بالتعاون مع وزارة الخارجية والهيئة الفرنسية للطاقة الذرية، كان هدفها الوقوف على تفكيك المنشأة وتوقفها نهائياً عن العمل والإنتاج. وبتفكيك هذا الموقع الذي يجزم المسؤولون الذين واكبوا الزيارة بأنه الوحيد من نوعه على الأراضي الفرنسية، من المفترض ان تصبح فرنسا أول دولة نووية كبرى تتخلى عن إنتاج الوقود النووي لأغراض عسكرية، وأول الملتزمين بقرار في هذا الاتجاه، تبنته مع بريطانيا والولاياتالمتحدة وروسيا. وإغلاق الموقع يدشن حقبة جديدة في تاريخ التسلح النووي، مبنية على الشفافية والمعاملة بالمثل والتقدم نحو عالم أكثر أمناً، كما أكد نائب رئيس هيئة الأركان الخاصة برئاسة الجمهورية الكومندان انطوان بوسان في كلمة ترحيبية. وتأمل فرنسا وفقاً لبوسان بأن تؤدي البادرة التي أقدمت عليها، الى حض الدول النووية الأخرى على القيام بالمثل، والمضي قدماً في المساعي الهادفة الى نزع التسلح على الساحة الدولية. ومن هذا المنطق، فإن زيارة الموقع بدت اشبه بزيارة عكس الزمن، اذ اظهرت ما كانت عليه وتيرة النشاط فيه لدى إنشائه في الخمسينات، والسكون الذي يلف حالياً أرجاءه بحكم تفكيك مكوناته. المحطة الأولى من الزيارة كانت لمصنع بيارلات لتخصيب اليورانيوم العسكري، الذي كان يضم وفقاً لأحد المسؤولين في الهيئة الفرنسية للطاقة الذرية أربع وحدات لكل منها مستوى خاص بالتخصيب يبدأ بنسبة 2 في المئة ويرتفع الى 6 في المئة في الوحدة الثانية ويستكمل في الوحدتين الأخريين ليصل الى المستويات المطلوبة عسكرياً ويرفض المسؤول الكشف عنها. وباستثناء الشاشات الموزعة في ممرات المصنع وتبث صوراً لما كان عليه نشاطه السابق فإن الزائر اليوم لا يشاهد سوى سلسلة قاعات ضخمة مبنية من الإسمنت وتتوزع عليها مستوعبات كبيرة مغلفة بمواد بيولوجية، لعزل ما في داخلها من معدات كانت تشكل المصنع. والحركة الوحيدة المستمرة داخل المصنع هي حركة المكبس العملاق الذي يعمل على ضغط الأجزاء المعدنية من نفايات المعمل بغية تقليص حجمها، استعداداً لنقلها الى موقع خاص بهذا النوع من النفايات بعد انتهاء عملية التفكيك عام 2010. اما المحطة الثانية من الزيارة فكانت في مصنع ماركول الخاص بإنتاج البلوتونيوم العسكري عبر ثلاثة مفاعلات نووية سيستمر العمل على تفكيكها حتى عام2020، أي بعيد الانتهاء من إنشاء موقع خاص بالنفايات المشعة عام 1919. وفي هذه المرحلة من الزيارة يجد الزائر نفسه امام ما يشبه المنحوتة الحديثة هي في الواقع قلب أحد المفاعلين النوويين اللذين أنتجا اليورانيوم الخاص بالصواريخ النووية الفرنسية، وهو اسطواني الشكل، طوله 165 متراً وقطره 20 متراً، ويتكون من غلاف من الإسمنت سماكته 3 أمتار وبداخله 40 ألف خرطوشة من الغرانيت. وتنتهي الزيارة في قسم التكرير التابع لمصنع ماركول حيث كان يُجرى استخراج اليورانيوم من خرطوشات المفاعل بعد تحوله الى بلوتونيوم، وبات بمثابة مجموعة من القاعات التي تحتوي على برك فارغة ويُجرى العمل على تنقيتها من الرواسب المشعة، التي ستدفن في مكان ما في جوف الأرض. وتقدر كلفة تفكيك منشآت بيارلات وماركول بحوالى 601 بليون يورو، وهو مبلغ يمثل استثماراً عملاقاً بالنسبة لدولة مثل فرنسا، ترغب في قلب صفحة من صفحات تسلحها النووي. فإغلاق موقع إنتاج الوقود النووية العسكرية لا يعني اطلاقاً ان فرنسا قررت التخلي عن مقدراتها النووية، لكنها وفقاً لديبلوماسي مطلع على الملف لديها ما يكفي من وقود مخزنة لتشغيل وصيانة 330 رأس نووية تشكل ترسانتها الإجمالية. فبخلاف الدول النووية الأخرى ومنها مثلاً الولاياتالمتحدة وروسيا، اللتان تكتفيان بالإعلان عن عدد الصواريخ النووية المنشورة وتعتمد التكتم حول الصواريخ المخزنة، فإن فرنسا قررت ان مستلزمات الردع النووي التي تحتاجها لا تقتضي أكثر من هذا العدد من الرؤوس ولا أكثر من كمية الوقود التي خزنتها ويرفض الديبلوماسي الكشف عن كميتها ومكانها. أما بالنسبة الى توقيت الزيارة وما اذا كانت على صلة ما بخطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في براغ حول النزاع الشامل للتسلح النووي، علماً ان أعمال تفكيك بيارلات وماركول بدأت عام 1996، تؤكد المصادر الفرنسية المختلفة عدم وجود أي صلة مع كلام الرئيس الأميركي. وتشير الى ان المقصود بالزيارة هو إطلاع الجميع على ما تقوم به فرنسا مع اقتراب موعد المؤتمر الخاص بإعادة النظر في معاهدة حظر انتشار السلاح النووي المقرر عقده عام 2010، والتأكيد أن الفرنسيين بخلاف سواهم يقولون ما يفعلون ويفعلون ما يقولون.