حسناً فعل الشاعر العراقي عبدالكريم كاصد بترجمته مجموعة «عن الملائكة» للشاعر الاسباني رافائيل البيرتي ليس فقط للأهمية البالغة التي يحتلها صاحب كتاب «الغابة الضائعة» في سياق الشعر الاسباني، بل لأن أعمال البيرتي الشعرية تكاد تكون غير معروفة في العالم العربي حيث اقتصرت ترجمته على بعض المختارات او القصائد المتفرقة التي لا تفلح في إظهار قيمة الشاعر وتجربته المتفردة. وقد يكون انشغال العرب بغارسيا لوركا، صديق الشاعر ومجايله، قد تم على حساب شعراء كبار آخرين من ذلك الجيل الشعري الاستثنائي الذي اطلقت عليه تسمية «جيل 1927» والذي يضم الى لوركا كلاً من ألبيرتي وألكسندري اللذين ظلا شبه مجهولين بالنسبة الى القارئ العربي. وقد يعود هذا الظلم في بعض وجوهه الى محاكاة تجربة لوركا بغنائيتها الفوارة وحسيتها الجارحة للروح العربية التي يحمل صاحب «أغاني الغجر» بعض سماتها في عروقه الاندلسية في حين أن ألبيرتي يجنح من ناحيته الى الاختبارات الداخلية واللغة المضمرة والكشف الحدسي. وهو ما يبدو بالغ الوضوح في مجموعته «عن الملائكة» التي تنأى بنفسها عن الإنشاد الغنائي أو الاحتفاء المفرط بالطبيعة اللذين يطغيان على الكثير من وجوه المشهد الشعري الاسباني لتقترب الى حدود بعيدة من التجربة الالمانية المتصلة بمكابدات الروح وتمزقاتها المؤلمة عند ريلكه وهلدرلن ونوفاليس وغيرهم. سنة الحب واللافت في هذا السياق ان ألبيرتي نفسه، الذي كتب مجموعته وهو لا يزال في السابعة والعشرين من عمره، يشير الى أن السنة التي سبقت صدور المجموعة هي «سنة الحب، الغضب، الجنون، الحنق، السقوط والعوز. آنذاك اكتشفت ملائكة ليست ملائكة اللوحات والنقوش المسيحية المجسدة بل الملائكة الشبيهة بقوى الروح القاهرة، والتي هي تجسدات عمياء لكل ما هو موجود في أعماقي من أشياء مدماة، محتضرة، مخيفة وطيبة أحياناً». يهدي رافائيل ألبيرتي مجموعته «عن الملائكة» الى الشاعر خورخي غيين الذي يسميه ضيف الضباب مقسماً المجموعة الى أسراب ثلاثة من الملائكة يغلب عليها طابع القسوة والألم والخوف والغضب والحسد في حين أن الملائكة الطيبين لا يظهرون إلا لماماً ليرشدوا الشاعر بين حينٍ وآخر الى سبيل للنجاة غير واضح المعالم. وقد لا يبذل المرء كبير جهد لكي يعقد صلة وثيقة بين المعاناة الروحية البالغة التي عاشها الشاعر في شرخ شبابه وبين وطأة زمنه المشروخ حيث لم تكد اوروبا تخرج من حرب عالمية طاحنة إلا لتتهيأ لحرب مماثلة كان ألبيرتي يرى نذرها في الأُفق بقدر ما كان يستشعر الكارثة التي تنتظر إسبانيا بالذات. هكذا يعلن الشاعر في القصيدة الأولى التي سمّاها «الفردوس المفقود» بأنه يبحث عن خلاصه وحيداً وبصحبته ملاك ميت حيث تلمع في الأفق «مدن بلا ردّ / أنهار بلا كلمات/ قمم بلا أصداء/ بحار خرس/ ورجال مسمّرون على ضفة قبور بلا حراك»، وفي حين يصرخ بملاكه «استفق أيها الملاك الميت» يخاطب الفردوس بقوله: «أيها الفردوس المفقود/أنت مفقود لأبحث عنك/ أنا، بلا ضوء، إلى الأبد». ومع ذلك، فإن ضوءاً مضمراً ينبعث من وراء السطور ويتمثل في تحول الفقدان الى ذريعة لا بد منها لإعطاء الحياة معنى ما ومواصلة البحث حتى النهاية عما تتعذر استعادته. قد لا تكون فكرة الملاك عند ألبيرتي بعيدة من جذرها الديني والميتافيزيقي الذي نجد تمثلاته في التوراة والانجيل والكتب السماوية سواء ما تعلق بالملائكة القابعين في سمواتهم أو بأولئك المكلفين حراسة الانسان وتتبع أعماله وسلوكياته. قوة روحية لا يتوقف ألبيرتي عند المفهوم النمطي الجاهز عن الملائكة بل يربط في شكل او في آخر بين الملاك كقوة روحية خارجية وبين الملاك النابع من ذات الانسان العميقة. وهو إذ يجعل لكل الميول والنوازع الانسانية ملائكتها لا يكتفي بملاكين إثنين للخير والشر، بل ثمة ملائكة للخديعة والقسوة والحسد والطمع والطيبة والرجاء وغير ذلك. وإذا كانوا جميعهم ضيوفاً على الضباب الذي يخشى روح الشاعر السادرة في تيهها واختلاط عوالمها، فإن ألبيرتي يخص الملاك الزائف بعتابه المرير: «من أجل أن أسير بين عقد الجذور/ ومنازل الدود العظيمة/ من أجل أن أسمع فرقعة العالم المتكسرة/ نصبت خيمتك الى الغرب من حلمي/ أيها الملاك الزائف». ثمة في نهاية تلك الحُمى الهذيانية التي أصابت الشاعر في شرخ صباه بصيص نحيل لضوءٍ ما يرسم له طريق الخلاص ويخرجه من نفق الكوابيس والوساوس التي أوقفته على شفا الهلاك. إذ في قصيدة المجموعة الاخيرة سيمنح ألبيرتي لذلك «الملاك الناجي من الموت» فرصة العثور على برٍ للأمان بعد أن تشرف السماء على الاندحار ويرسب الجميع في العزلة الثلجية. لكنه سيكون ملاكاً مهيضاً وجريحاً ومقصوص الجناحين، ولن يكون نصيبه من الارض أفضل من نصيب «الملاك الطاهر» الذي وصفه الشاعر بقوله: «كان البحر ومنحه إسماً/كانت الريح ومنحته لقباً/كانت السحب ومنحته جسداً/كانت النار ومنحته روحاً/ الارض لم تمنحه شيئاً/هذه المملكة المتنقلة المعلقة بالنسور لا تعرفه/أبداً لم ينقش ظلّه شكل بشر».