منذ نشأة الجمهورية الإيرانية الإسلامية وهي تثير عديداً من المشكلات النظرية والعملية والسياسية. ظهرت فجأة على أنقاض النظام الإمبراطوري الإيراني بعد ثورة مظفرة قادها الإمام الخميني. وهو بسيرته الفذة كان يمثل أسطورة دينية وسياسية. رجل الدين المنفي في باريس، والعائد إلى بلاده لكي يقود ثورة شعبية. غير أن الجمهورية الوليدة التي قامت على أساس ولاية الفقيه وتحكمها مجموعة من الفقهاء ورجال الدين، بدت وكأنها قادمة من كهوف التاريخ! ذلك أن تأسيس دولة دينية في عصر العولمة والديموقراطية، بدا كما لو كان نتوءا في مسيرة التقدم الحضاري، الذي تجاوز منذ قرون امتزاج الدين بالسياسة، والحكم المباشر لرجال الدين، وتحكمهم في مسار مجتمعاتهم في ضوء فتاوى دينية، قد تكشف عن قرارات محافظة أو متشددة للنصوص الدينية. وأثارت الثورة الشيعية الإيرانية الاضطراب على النطاق الإقليمي والدولي، لأنها نزعت إلى تصدير الثورة، مما أدى إلى خلخلة للأوضاع في عديد من دول الجوار، وأصبحت بمثابة خطر ماثل للسلام العالمي من وجهة النظر الغربية. ورغم أن ولاية الفقيه كمذهب ديني شيعي لم يكن عليه إجماع بين كبار فقهاء الشيعة أنفسهم داخل إيران، إلا أن الخميني بشخصيته الكاريزمية استطاع أن يفرضه، وما زال مطبقاً حتى الآن. ونتيجة لحكم رجال الدين اصطبغت الممارسة السياسية للجمهورية الإيرانية الإسلامية بصبغة دينية واضحة، انعكست على المؤسسات السياسية ذاتها وعلى الممارسات. فهناك المرشد الأعلى الذي يمثل ذروة المرجعية الدينية، وهناك مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي يهيمن على العملية السياسية. بعبارة مختصرة اختلط الدين بالسياسة، وأصبح من الصعب الفصل بين المجالين كما هي الحال في أي دولة عصرية. ودخلت الجمهورية الإيرانية أو أدخلت في حرب طاحنة مع العراق، امتدت سنوات وكانت لها آثار بالغة السلبية، بعد أن سقط فيها ملايين الضحايا. وإذا كانت الجمهورية الإيرانية قد تخلت بعد حين عن مذهب تصدير الثورة، إلا أنها عبر السنوات نزعت إلى أن تكون دولة إقليمية كبرى، ومدت نفوذها من خلال تحالفات متعددة إلى سورية والمنظمات الفلسطينية خصوصا حركة «حماس»، وأخيراً وبعد الغزو العسكري الأميركي للعراق، أصبح لها وجود ونفوذ قوي ومؤثر هناك. ويمكن القول إنه منذ انتخاب أحمدي نجاد للمرة الأولى رئيساً للجمهورية، حدث تحول واضح في السياسات الإيرانية في الداخل والخارج معاً. جاء أحمدي نجاد بعد رئيس إصلاحي هو محمد خاتمي، الذي حاول ونجح في أن يعطي إيران وجهاً حضارياً مسالماً على مستوى العالم. في الداخل قام بمعونة الإصلاحيين بإجراءات متعددة لكي يكون الحكم مدنياً وليس دينياً يقوم على الفتاوى المتشددة للملالي والفقهاء، ما سمح للتيار الليبرالي أن يعبر عن نفسه وأن يشتد ساعده بالتدريج. وعلى الصعيد العالمي برز الرئيس خاتمي بمبادرته الشهيرة عن "حوار الثقافات"، التي دعا إليها في خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي قوبلت بإجماع تاريخي، وأصدرت الأممالمتحدة قراراً بأن يكون عام 2001 هو عام حوار الحضارات، وعقدت اليونسكو مؤتمرات عديدة للدعوة الى الحوار بديلاً عن نظرية صراع الحضارات التي أطلقها المفكر الأميركي صمويل هنتنغتون، والتي أثارت جدلاً عنيفاً على مستوى العالم، واعتبرت دعامة إيديولوجية للسياسات الأميركية العدوانية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وغياب "العدو" التقليدي، فكان لا بد من اختراع عدو جديد، كان هو - كما قرر هنتنغتون - الحضارة الإسلامية والحضارة الكونفوشيوسية، إشارة إلى تصاعد حركات الإسلام السياسي من ناحية، وصعود الصين من ناحية أخرى. غير أن هذه الصورة الحضارية لإيران التي قدمها الرئيس خاتمي، سريعاً ما ذوت بعد انتخاب أحمدي نجاد رئيساً للجمهورية. جاء نجاد باعتباره ممثلاً للفقراء والمستضعفين، ولم يخرج من عباءة الملالي أو فقهاء الدين. كان وما زال يمثل البساطة ويعبر عن طبقات الشعب العريضة. غير أنه استخدم خطاباً سياسياً شعبوياً في الداخل، واستفزازياً للعالم، خصوصاً في تصريحاته النارية عن إسرائيل والتي هي كما كرر أكثر من مرة دولة ينبغي أن تزال، لأنها تمثل العقيدة الصهيونية العنصرية، ولكونها اعتدت على حقوق الشعب الفلسطيني، وغزت أرضه التاريخية بطرق غير مشروعة. ومن المعروف أنه وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء الدولة الإسرائيلية عام 1948، وهي تعيش تحت حماية الدول الغربية عموماً والولاياتالمتحدة الأميركية خصوصاً. ليس ذلك فقط بل لقد استطاعت الدولة الإسرائيلية والحركة الصهيونية العالمية من خلال "صناعة" الهولوكست، أن تتاجر بحكاية المحرقة اليهودية، وأن تبتز ألمانيا أولاً وحصلت منها على سبيل المثال على بلايين الدولارات، واستطاعت أن تحصل على السلاح المتقدم الذي استخدمته مراراً في الاعتداء على البلاد العربية، من فرنسا ومن الولاياتالمتحدة الأميركية، التي أغدقت عليها المساعدات والقروض الاقتصادية والسلاح. وهكذا يمكن القول إن إسرائيل - نتيجة تطبيق حاذق لسياسة الحركة الصهيونية العالمية - أصبحت محمية غربية! وبالتالي لا يسمح بالهجوم عليها، حتى لو كان ذلك على مستوى الخطاب، كما فعل الرئيس أحمدي نجاد، والذي قوبلت تصريحاته الشهيرة باستنكار غربي شديد. غير أن المسألة لو وقفت عند حدود خطابات أحمدي نجاد النارية ضد اسرائيل وما تثيره من زوبعات غربية لهان الأمر، غير أن الأخطر من كل ذلك أن ولاية نجاد الأولى ارتبطت بالمشروع الإيراني لتخصيب اليورانيوم، والذي اعتبرته إسرائيل والولاياتالمتحدة الأميركية والدول الغربية الخطوة الأولى لتصنيع قنبلة ذرية. واعتبرت هذه الدول أن هذا المسعى الإيراني المنهجي المنظم وحصول إيران على القنبلة، من شأنه أن يخل إخلالاً خطيراً بالسلام العالمي من وجهة نظرها، وذلك لأسباب عدة. لعل أهمها أن دول "النادي الذري" كما يطلق عليها حريصة حرصاً شديداً على عدم انتشار الأسلحة الذرية، وتريد أن تحتكرها باعتبارها من وسائل القوة البارزة التي لا ينبغي أن يسمح لعديد من الدول بامتلاكها. ومن هنا قاومت الولاياتالمتحدة الأميركية سعي الهند إلى امتلاك القنبلة وكذلك باكستان. غير أنها في النهاية رضخت للواقع وهو أن هاتين الدولتين عبر دروب معقدة استطاعتا امتلاك القنبلة الذرية. والولاياتالمتحدة الأميركية في رعب الآن من أن يسيطر تنظيم «القاعدة» بتنظيماته الإرهابية على باكستان بعد إسقاط النظام، ويصبح بالتالي مالكاً لقنبلة ذرية، ما يهدد الأمن القومي الأميركي مباشرة، بل يهدد السلام العالمي. دخلت الجمهورية الإيرانية كما نعرف معركة كبرى مع الدول الغربية التي حاولت بكل الطرق ثنيها عن المضي في طريقها النووي، رغم تأكيد ايران أن برنامجها النووي هو لأغراض سلمية، وأنها لا تسعى إلى تصنيع قنبلة ذرية. والمعركة ما زالت مستمرة مع وكالة الطاقة الذرية من ناحية، ومع إسرائيل والولاياتالمتحدة الأميركية على وجه الخصوص، ومع الدول الغربية على وجه العموم. إسرائيل اعتبرت أن البرنامج الذري الإيراني يمثل خطراً مباشراً على أمنها القومي، ولذلك هي مشغولة بإعداد الخطط لضربة عسكرية مؤثرة ضد إيران تنسف فيها معامل التخصيب الذري، والولاياتالمتحدة الأميركية نفسها جهزت في عهد إدارة جورج بوش خططاً مماثلة انتظاراً للحظة المناسبة، وبعد استنفاد المحاولات الديبلوماسية كافة مع إيران. غير أن مجيء الرئيس أوباما الى الحكم في أميركا، أدى إلى تغيير نسبي في الموقف، بعد أن أكد أنه سيطبق سياسة الحوار وليس سياسة الحرب في تعامله مع إيران وغيرها من الدول. ولذلك ركز على المساعي الديبلوماسية والتفاوض، وفرض العقوبات السياسية والاقتصادية على إيران، بدلاً من المواجهة العسكرية بكل مخاطرها المحتملة. غير أن إسرائيل القلقة من المشروع الإيراني لمحت إلى أنها يمكن أن توجه وحدها ضربة عسكرية لإيران، لو آثرت الولاياتالمتحدة الأميركية أن تمتنع عن خطة ضرب إيران عسكرياً. غير أن اسرائيل تلقت تحذيراً أميركيا بعدم المغامرة بهذه الخطوة الخطيرة، والتي قد تؤدي إلى انقلاب الأوضاع في الشرق الأوسط، بل وفي العالم أجمع. وأعيد انتخاب أحمدي نجاد بعد معركة كبرى بينه وبين موسوي وكروبي وقامت التظاهرات البالغة الحدة والعنف ضد السلطة الإيرانية، احتجاجاً على تزييف الانتخابات لصالح أحمدي نجاد كما قالوا. قوبلت التظاهرات التي شارك فيها ملايين الشباب بقمع شديد من السلطات الإيرانية مما أثار استنكاراً دولياً. غير أنها لم ولن تغير من الموقف، لأنه تم إعلان نجاح أحمدي نجاد وأصبح رئيساً للجمهورية للمرة الثانية. غير أننا لو تجاوزنا الأحداث يمكن ان نطرح جملة من الاسئلة: هل يمر النظام السياسي الإيراني بأزمة، وهل هذه الأزمة ناتجة من طبيعة الدولة الدينية، أم تعود إلى سيطرة الجناح المتشدد من رجال الدين على مجمل المجال السياسي الإيراني وفرض أفكارهم عليه؟ وهل لو افترضنا ان ممثلين للجناح الليبرالي المحتج جاءوا إلى الحكم، سيتغير الموقف، وتتبدل السياسات في الداخل والخارج؟ في تقديرنا أنه حتى لو جاء الجناح الليبرالي الى الحكم في إيران فلن يكون التغيير عميقاً، لأن الأزمة هي أزمة الدولة الدينية في المقام الأول والتي هي في الواقع وبكل المعايير مفارقة لروح العصر. ويبقى السؤال المفتوح: هل يمكن أن تتحول إيران إلى دولة مدنية في الأجل المتوسط، وتحت أي ظروف ووفق أي شروط سياسية؟ * كاتب مصري