يواصل عواض العصيمي مشروعه الروائي مراهناً على الكتابة نفسها بعيداً عما يصاحبها عادة من صخب وحضور مفتعل. العصيمي يكتب مراهناً على أن العمل الجيد هو الباقي في النهاية. «طيور الغسق» هي الرواية الخامسة بعد روايات «على مرمى صحراء في الخلف» و»أكثر من صورة وعود كبريت» و «قنص» و»المنهوبة»، تدور أحداث «طيور الغسق» في ضاحية من ضواحي مكةالمكرمة، لكن أبطال هذه الرواية لا يشعرون بالاستقرار، فهم يهربون دائماً من المكان إما من خلال الحكايات، حيث يصنع لنا منسي، أحد أبطال الرواية، عالماً حكائياً فنتازيا من خلال قصة القرية، التي يرويها لأصدقاء المقهى، وعن كلب تلك القرية الذي ينبح من ذيله، وفي مقابل الشاب الذي يخترع الحكايات هناك استراحة كبار السن الذين ليستعاد الماضي أيضاً على شكل حكايات حيث لا يتوقف سائق اللوري عن الحديث عن الماضي الجميل. رواية «طيور الغسق» من إصدارات دار أثر للنشر والتوزيع. «الحياة» التقت عواض العصيمي، فكان هذا الحوار حول الرواية وعوالمها. تبدو الرواية لدى عواض العصيمي أشبه بقطع رخام صغيرة عندما تتجمع بجانب بعضها البعض فإنها تشكل لوحة أخرى مختلفة، هل تتفق مع هذا الرأي؟ - من المهم أن يكون الشكل مختلفاً، بل من الضروري، لكن الأساس هو أن تتجاور القطع الصغيرة أولاً، وبكيفية متجانسة لا تعسف فيها ولا تصنع، لتتشكل منها تالياً القطعة الأكبر، العمل نفسه، بالكيفية ذاتها، فالأساس يبدأ من إتقان الأشياء الصغيرة ليكتمل في الكبيرة جمالها الكلي ومبرر وجودها في الفن. كانت نظرة الأم لولدها الذي يخترع الحكايات باعتباره يخالف تقاليد الحكاية المتوارثة وكأنها إسقاط بشكل ما نحو إشكال التجديد والمحافظة فاعتراض الأم كان ينصب دائماً على كون الولد يقول حكايات مختلفة وغريبة ولا يمكن تصديقها... هل ترى هذا؟ ملاحظة قابلة للتأمل، لكن الحكايات يحكيها منسي لبعض أصدقائه، ويكتمها عن آخرين ومنهم أصدقاء (المغَمَّس) الذين لم يصدقوا ما سمعوا منها، كما توقف عن سردها لأمه التي لم تتقبلها أيضاً، وانقسم بذلك مجتمعه إلى مؤيدين لسماع الحكايات ورافضين لها، غير أن الأهم بالنسبة إليه هو أنها صنعت اسمه عند المؤيدين فيما جعلت منه شخصاً مزعجاً عند الرافضين، وكان قبلها يعيش حياته مغموراً كغيره من الشباب الذين تمضي أوقاتهم في شؤونهم الخاصة ولا أحد يمنحهم اهتماماً استثنائياً، وكأنه بالحكايات التقط نفسه من دائرة التجاهل الاجتماعي ورفعها إلى دائرة الجدل والرفض القبول، كأنه كان ينشئ المزيد من تاريخه كلما حكى، ومن هذه الصنعة الجديدة يتكاثر من حوله الأصدقاء والخصوم، وهكذا يجد نفسه مثل حكاياته أشبه بحادثة غريبة وقعت في المنطقة لم يستوعبها أحد. أتحدث هنا عن منسي من واقع عالمه الجديد. بدت شخصية سائق اللوري الناقم على التغيرات الاجتماعية والمادية التي قضت على تقاليد مهنته وكأنما هي استمرار لطرق موضوع التشوهات الاجتماعية التي أحدثتها الطفرة المادية حيث اختفت كثير من المهن، في روايتك السابقة المنهوبة كان ثمة تناول لتلك التشوهات من جانب آخر... هل تراها قراءة صحيحة؟ - سائق اللوري من لهجته، يبدو بالفعل شديد النقمة على الأسباب التي أفقدته المميزات الصغيرة التي كانت توفرها له مهنته في نقل البضائع من مكان إلى آخر، ذلك أنه وجد نفسه ضحية شيخوخة عُمُرية تتربع في وسط شيخوخة مهنية، والاثنتان ألقتا عليه وابلاً من الإنهاك الصحي والنفسي جنباً إلى جنب مع الاقتصادي والبطالة، فكان من الطبيعي أن يفسح لنفسه وقتاً يرثي فيه عصره الغارب ويتوجع على أفول زمنه وانكفاء جيله إلى تذكر الماضي لا أكثر. لقد كان سائق اللوري في عصره الذهبي من أكثر الناس سفراً بين المدن والقرى وكان من أهم الأشخاص في التواصل مع الفئات الاجتماعية التي يلتقي بها في أسفاره وعادة ما يمثل طرفاً مهماً في وصف أحوال الناس ونقل أخبارهم من مدينة إلى أخرى ومن جماعة إلى سواها وفي كل الشؤون العامة تقريباً، لذلك عندما توقف عن عمله انقطعت كل هذه الأشياء واختفت كلياً. الغسق هو أول ظلمة الليل، وآخر ضوء النهار، لماذا «طيور الغسق»؟ - هي عبارة قالها أحد شخوص الرواية يصف بها تجمع شلة منسي بعد غروب الشمس، وقد وصفهم بالطيور التي لا تجتمع إلا في الغسق، لكن العادة جرت أن يخرج الناس في الليل، الشباب تحديداً، إلى الأماكن المفتوحة وفي بعض الساحات الخالية للتنزه والاسترواح هرباً من أجواء المنازل الخانقة، ومن يراقب حركة الشباب في المدن والضواحي يلحظ خروجهم ليلاً وإمعانهم في السهر حتى الصباح وكأن الحياة التي يريدونها لا توجد إلا في الليل. في «طيور الغسق» وقبلها «المنهوبة» يبتعد عواض العصيمي عن موضوع الصحراء الأثير لديه، لكني ألاحظ أن أبطال «طيور الغسق» وكأنما يهربون من المكان كأنما جميعهم لا يشعرون بالاستقرار، هم أشبه بكائنات صحراوية محبوسة في مكان، يهرب الكبار إلى الاستراحة حيث حكايات الماضي ويهرب الشباب إلى المقهى حيث الحكايات الفانتازية... لماذا هو هذا الهرب المتواصل؟ - ربما لأن المكان لا يمثل لهم أهمية كبيرة، أعتقد أن علاقتنا بالمكان في شكل عام تذكرنا بلحظتين، لحظة المجيء إلى الحياة ولحظة الخروج منها، والزمن الممتد بينهما لا يلتحم بالمكان كثيراً بل بكيف يمر الوقت فحسب، أتحدث من رؤية خاصة لا أفرضها على قارئ العمل. لماذا اخترت أن يحصل منسي أحد أبطال الرواية على حكاياته من مخطوط ضائع؟ ألا يجعله هذا الأمر مجرد ناقل غير مبتكر؟ - لم أختر ذلك، بل جاءت هكذا، فقد تصادف في نقلة ما من حركة النص أن يضع يده على المخطوطة بدل أن يكتبها فتقرر عندئذٍ أن تبدو عملية السطو أقرب إلى تبنيه فكرة الكاتب. هل يشير ذلك إلى اكتفاء بعضنا بالنقل وبعضنا بالسطو دون خوف من العواقب في حياتنا عموماً؟ ربما. بدأ العيد في الرواية وكأنه أشبه بواحة صغيرة من الفرح؟ هل ترى أن مجتمعاتنا تنقصها البهجة، ها نحن نعود مرة أخرى للحديث عن تشوهات عميقة تسكننا، أم أنها مجرد نظرة رومانسية للماضي؟ - ينقصها الكثير من البهجة، هذا صحيح. نحن أقل المجتمعات العربية اهتماماً بإقامة الاحتفالات العامة والملتقيات الشعبية المخصصة للفرح البريء والبهجة التلقائية، فالاحتفالات عندنا لا تتعدى الشأن العائلي والأعراس خير شاهد، والوطني منها قليل للغاية وعادة ما تتكفل به البلدية والإمارة والشرطة في إطار رسمي جداً، وتحت المراقبة الأمنية، وفي الفرح الرياضي تغلب الفوضى والزعيق في الشوارع لحظة الاحتفاء بالمناسبة، أما في العيدين فتتم صناعة الفرح وليس معايشته عبر التصور الإداري لكل منطقة بحسب تفكير الفئة المخول لها مراقبة السلوك العام. إذاً، أين البهجة العامة؟ هنا أتذكر انك ربطت بين التلفزيون والعيد... وكأنما التلفزيون يحثنا على الفرح أو ربما ينوب عنّا في الفرح... هل توافقني؟ - يتأمل منسي مظاهر العيد من خلال شاشة التلفزيون وينقِّلُ بصره بين المدن التي يعرضها الجهاز في بث صباحي فيما هو يغالب النوم ويحمل في داخله ضيقاً من الطريقة التي يعرض بها الجهاز شكل العيد عبر القناة الرسمية، فهو يعتقد أن عيد الشاشة إنما هو لأكابر القوم وليس له، وأن ما يعرضه الجهاز لا يعدو كونه أحد مظاهر الفرح في الطبقة الغنية والمتنفذة في المجتمع أما الفرح الذي يعرفه في العيد فليس أكثر من مناسبة تمر سريعاً لا عمق للزمن فيها ولا للمشاعر الإنسانية. هل يتعمد عواض أن يترك لدى القارئ بعض الأسئلة حول شخصياته... من نوع كيف لمنسي مثلاً أن يعيش بلا أب في مجتمع تحكمه المحافظة والتقاليد، كيف لشيخ العشيرة أن يترك ابنه دون أن يبحث عنه؟ - بل هناك من هو أسوأ من عينة والد منسي، هناك من ينكر ابنه أو ابنته تحت ادعاءات بالعقوق أو الانحراف ويبحث في المحاكم عن وسيلة لاستخراج صك براءة من ولده، وهناك من أطغته الثروة عن احتضان غير المحظوظين من أبنائه فأهملهم لمصلحة أبناء زوجة مقربة وأثيرة عنده. المجتمع عبر بعض نماذجه يقتل أبناءه ويحرمهم حقهم الشرعي ويعاملهم مثل الحيوانات والقصص الواقعية كثيرة في هذا الشأن. لاحظت أن المرأة لا تحضر بشكل كبير في طيور الغسق، ليس ثمة حكاية حب كما جرت العادة في كثير من الأعمال الروائية المعاصرة، لماذا؟ - في هذه الرواية تتكون الشخوص من الذكور فقط، من الشباب من جهة ومن كبار السن من جهة أخرى واللقاءات التي تجري هنا وهناك لقاءات ذكورية بحتة لذلك تغيب المرأة عن هذه التجمعات الممنوعة من حضورها أصلاً. كانت ثمة ملاحظة في بداية الرواية عن انك كتبت أجزاء منها في مقهى هافانا... هل هي تحية للمقهى أم إشارة لمشروع ثقافي لم يستطع الصمود والاستمرار...؟ - نعم تحية لفكرة المقهى، على وجه التحديد. والمقهى نفسه كان من أروع الأماكن التي أحببتها، ولا أنسى هنا أن أشكر الأستاذ حامد القرشي، صاحب المقهى، الذي رحب بدخولي المقهى في أي وقت وأعطاني نسخة من مفتاحه الخاص وهيأ لي الوقت والهدوء بكل كرم وأريحية. أما بخصوص كونه إشارة لمشروع ثقافي لم يستمر، فكان هذا الإحساس لدي منذ البداية، فالمشروع الثقافي القائم على جهد وإمكانات شخص واحد لا يستمر طويلاً، وكلما تراكمت نجاحاته زادت معوقاته من أطراف كثيرة، وكلما كانت برامجه تنعم بقدر من الحرية في اختيار الضيوف وعناوين الأمسيات الثقافية قوبل بتحفظ وتصلب في الانطباعات وردود الأفعال من جهات عدة. إجابتك بخصوص هافانا تدعوني لسؤالك عن رؤيتك للمؤسسات الثقافية، الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون وغيرها، كيف تنظر لما يمكن أن تقدمه هذه المؤسسات؟ - رأي شخصي، لا أشعر بأي انجذاب أو ارتياح نفسي للمؤسسات الثقافية والأندية الأدبية عموماً، ولكني لا أستطيع أن أقيم أداءها والفعاليات التي تقام فيها باستثناء ما حضرته منها، وقد حدث ذلك منذ فترة طويلة، وكانت النتيجة أن رأيي لم يتغير وقتها فالأندية في نظري أمكنة للتعارف وتجديد اللقاءات الجانبية، أكثر منها أماكن تعمل في الثقافة وتروج لها.