يؤكد الروائي عواض شاهر العصيمي إن من أخطر المشكلات التعامل مع الأحداث والمواقف بعقليات، تعتقد أن الارتجال لصالح الذهنية الغالبة عادة عربية حكيمة في معالجة الأمور وحل المعضلات، مشيرا إلى أن القوانين والأنظمة المكتوبة معظمها، تحول دون تطبيقه، مهارات اجتماعية في فن الشفاعة، إما انتصاراً للشخص المهم، أو للقبيلة، أوالمركز الوظيفي. ويقول إن هناك تشوّهات قادمة ستكون في غاية الخطورة، إن لم نبكر في درس أسبابها والبحث عن حلول قوية لها، موضحا في حوار مع «الحياة» أنه كقارئ مهجوس بالخوف من المجهول، وبما يتعلق منه بالمستقبل على وجه التحديد. ويعبر عن خشية كبيرة من استيلاء المشاهد الأكثر بشاعة على منصة العرض، ويحوّل المسار إلى جهة فيها الكثير من الويلات. لا يراهن عواض شاهر على شيء لا يستطيعه، في رواياته التي يتأكد تميزها باستمرار عما سواها من روايات، ولايعد بشيء خارق، لكن رغبته تسكنه في أن يملأ عين القارئ بكتابة روائية فيها اختلاف وتميز. فإلى تفاصيل الحوار. يصف الناقد فيصل الجهني أبطال المنهوبة قائلاً: كلهم أبطال وهامشيون، منهوبون وناهبون، مصادر للجمال وللقبح.. في اللحظة ذاتها، وهنا أسألك هل هذه هي صورة المجتمع نفسه من حيث هو ظالم ومظلوم في اللحظة ذاتها.. أم هي تعبير عما يمكن تسميته باختلاط الوجوه بالأقنعة؟ - يا عزيزي كل مجتمعاتنا العربية فيها صور من المنهوبة، فيها سلمان وجبر ومنازل، وفيها قردة تنتظر فرصها أيضاً، وكلما توغلت في عمق النسيج الاجتماعي المحكوم بمفاهيم بعيدة عن المدنية وسلطة القانون تجد المزيد من هؤلاء. من أخطر مشكلاتنا أننا نتعامل مع الأحداث والمواقف بعقليات تعتقد أن الارتجال لصالح الذهنية الغالبة عادة عربية حكيمة في معالجة الأمور وحل المعضلات، أما القوانين والأنظمة المكتوبة فمعظمها تحول دون تطبيقه مهارات اجتماعية في فن الشفاعة، إما انتصاراً للشخص المهم، أو للقبيلة، أوالمركز الوظيفي، أو من أجل السمعة الشكلية في كثير من الأحيان. تعلم أن القاتل الذي يخرج من السجن بشفاعات ووساطات عتيدة تقام له احتفالات تذبح فيها الخراف وتلقى فيها القصائد مدحاً وتمجيداً للقبيلة وزعيمها وكبارها، في حين إذا بحثت عن احترام لمشاعر أهل القتيل لا تجد ما يمضون به وقتهم في راحة بال. هذا يحدث أحياناً، والمحرك الأساس لهذه العادات وهذه المفاهيم هو أن كثيراً من سكان المدن، وممن تعلموا وتبوأوا المناصب، هم في الأصل من أصحاب السوابق في تفسير ظاهرة التمدن على أنها مجرد تحول في السكنى من الشكل الصحراوي إلى الشكل المعماري الحديث، من الصوف إلى الأسمنت الذي تفرضه الإقامة الطويلة لأن الدولة تسمح باقتراض المال وبناء العمارات وفتح المتاجر وتسهيل الحياة، بحسب ما يفكر البعض، أما الذهنية الغالبة فهي التي تلوذ بقوانين اجتماعية غير مكتوبة تأتي من العادات والأعراف البدائية في فض النزاعات وتسوية الخلافات والتستر على المجرمين والمنحرفين. من هذه الخلفية المختزلة، تنشأ مثل هذه الأحداث التي وردت في المنهوبة، وهي على أي حال محاولة للقول بأن الشعور بالأمان في وجود الراقع قد يوسع الخرق من دون أن ندري، وذلك لأن الراقع ما تزال أدواته في رتق الخروق بدائية ومتخلفة بينما تغير الزمن واستجدت مراحل لابد فيها من الاحتكام لسلطة القانون العادل والنزيه من دون تحيزات وشفاعات. دعني أسالك عن رمزية الأسماء في الرواية، لماذا جبر ولماذا منازل؟ - لو وجد القارئ في أسماء شخوص الرواية ما يعتقد أنه ذو مغزى من أي نوع، فهذا مما يساعدني على القول بأن اختيار الأسماء في العمل الروائي إنما يعود في زعمي إلى المسار الغامض الذي يحكم اسم الشخصية. اختيار الاسم يتم في البداية بصورة اعتباطية، لكن أليس هذا ما يمر بنا حين يسمينا أهلونا في الساعات الأولى من مجيئنا إلى الدنيا؟ عندما نكبر نشعر، وإن على نحو اعتباطي، بوجود علاقة بين أسمائنا وما نمر به من مواقف وأحداث، الاسم شارة البدء ورفيق التفاصيل الملتبس مدى الحياة، اسمي عواض ليس على النحو الذي يكشفه المعنى الظاهر المحمول بصيغة المبالغة، وإنما على النحو الذي رافقني طوال حياتي في ألوان ومظاهر شتى من المعايشات والوقائع والأحداث التي مررت بها، وكأنه في كل واقعة سيئة يبتعد من كونه اسماً عادياً إلى كونه حادثة ساخرة أو شريكاً يتصرف مثلي بالضبط ولكن في طابع ساخر، وفي كل واقعة حسنة كأنما يحمل مغزى اللاقرار، واللانهاية، ما يجعل الركون إلى معناه الظاهر أمراً غير ذي جدوى، الاسم حادثة اعتباطية نعيشها مدى الحياة، لكنه من ناحية أخرى أقرب إلينا في تفهم تقلبات الحياة نفسها، وفي استيعاب فكرة أن الاسم والمسمى قد لا يلتقيان أبداً في أي شيء، وقد يحدث العكس، ولكن بطريقة تفرضها وقائع وأحداث لم نخطط لها. السعدان الذي ينتظر فرصته والخوف من ظهور السعدان في حياة الآخر... وحديث جبر عن تخليه عن صناعة مجسم آخر للسعدان حتى لا يتفشى القبح أكثر... لقد فهمت هذه الإشارات وكأنما هي تحذير من تشوهات مستقبلية يراها الروائي قادمة لا محالة، هل تتفق مع هذا الفهم؟ - في شكل عام، إضافة إلى التشوهات الراهنة، وهي كثيرة، ومنها اعتلاء ظهر الفكرة القائلة بأن النهب من (حلال الدولة) عادة مشروعة في مدح الذكاء والتحايل على النظام، ومنها الاستقواء بالهيبة الاجتماعية، أو الدينية، أو استخدام السلطة من أي مستوى، في تفريغ التشريعات من مضامينها والاستيلاء بالتالي على حقوق آخرين، ومنها كذلك تفسير الذهنية الغالبة للمصلحة العامة على أنها حق امتياز لأفراد محددين وليس حقاً يتشارك الجميع في صونه والاستفادة منه بالتساوي، إضافة إلى هذه التشوّهات، وغيرها من التشوّهات الراهنة مثل التشدد الديني، وأيضاً اعتقاد البعض بأن منطقته هي أهم مناطق الوطن، وبالتالي أكثرها استحقاقاً للمشاريع وخطط التنمية. هناك تشوّهات قادمة ستكون في غاية الخطورة إن لم نبكر في درس أسبابها والبحث عن حلول قوية لها. منها أن تتحول القبيلة من مكوّن اجتماعي ضمن مكونات اجتماعية أخرى إلى مكوّن اجتماعي سياسي ديني يتقدم على الدولة ويكون بديلاً لها، وإن في شكل غير ظاهر، سواء في «قبلنة» الدين، أو «قبلنة» المكان، وترسيخ عنصرية طاغية خشنة من طبيعتها أن تولّد عنصريات مضادة تفتت الكيان الواحد إلى كيانات متشظية متباعدة. لا أتهم القبائل بسوء، ولا أبرئ غيرها على طول الخط. ولكن فكرتنا عن الدولة ما تزال في كثير من الأحيان بدائية وبسيطة، والثقافة القانونية بعيدة عن الممارسة على مستوى الأفراد والجماعات حتى الآن، كما أن تقبّل فكرة المجتمع المدني لا يزال ينظر إليها البعض بحذر وتوجس، ودائماً نسأل عن السبب. طبعاً الرواية لم تضع ما سبق في سطورها الظاهرة، ولكنها بحسب زعمي تستوعب قراءة بهذا الاتساع، كما تحتمل قراءات أخرى متنوعة بالتأكيد، لكن جزءاً كبيراً من المجتمع الذي حاولت تشكيله في الرواية لم يرفض مشروع التوطين، ولكنه ظل عصياً على فكرة التمدين بالمعنى الحضاري للكلمة، وقد يكون أحد الأسباب أنه بقي مهمشاً وخارج المشاركة الفاعلة، أو لأن تمدين المجتمع نفسه ما زال وعداً لم يتحقق بشكل كامل حتى الآن. بطلة الرواية منازل التي ترمز للجمال وللحب، تنتهك من خلال الرجل الذي يحبها أو من خلال وجهه الآخر، إذ يلبس قناع السعدان وهو يغتصبها هذا يدفعني للسؤال: هل «المنهوبة» رواية متشائمة وتحمل نظرة قاسية تجاه المجتمع؟ - ما سبق من أجوبة ربما يضع طرفاً من المشهد في مساحة أقرب، وبلون قاتم، ولكن هذه الرؤية تعكس نظرتي كقارئ للعمل، أما ككاتب فقد كتبت وانتهى الأمر، وأصبحت الرواية الآن في متناول القراء ولن تعود إليّ مرة أخرى. لكني كقارئ مهجوس بالخوف من المجهول، وبما يتعلق منه بالمستقبل على وجه التحديد، دائماً ما أشعر بخشية كبيرة من استيلاء المشاهد الأكثر بشاعة على منصة العرض، وبشكل تراجيدي يقلب الأمور رأساً على عقب، ويحوّل المسار إلى جهة فيها الكثير من الويلات، هل هذه النظرة تشاؤمية؟ ربما، وأتمنى ألا تتحقق. يواصل عواض مشروعه الروائي بعيداً عما يمكن وصفه بروايات تتسابق نحو الجمهور، من خلال اللعب على مشاعر الكشف الاجتماعي المباشر أو الجراءة الحسية أو الصراع الأيديولوجي المكرر، على ماذا يراهن عواض؟ - لا أراهن على شيء لا أستطيعه، ولا أعد بشيء خارق، ولكن طالما سكنتني الرغبة في أن أملأ عين القارئ بكتابة روائية فيها اختلاف وتميز، لنركز على مفردة «تميز» ولكن بأمل أن تكون في وضعية تفاعلية يجدها القارئ في ما أكتب من دون أن تُفرض عليه تحت أي ادعاء. يقول الناقد الدكتور سحمي الهاجري في كتابه المهم «جدلية المتن والتشكيل» الذي خصصه لدراسة الطفرة الروائية في السعودية، يقول: «الطفرة الروائية المحلية انتهت بنهاية عام 2006، لأنه لا توجد طفرة تستمر إلى ما لا نهاية، وبالتالي فإن الروايات التي نشرت بعد هذا التاريخ إما مجرد تقليد وتكرار واجترار لنماذج الطفرة، وهي الأكثرية، وإما تجاوز لروايات الطفرة في نماذج أخرى قليلة حتى الآن»، وهذا التجاوز الذي أشار إليه الدكتور الهاجري، هو في رأيي الخيار الذي لا بد للكتّاب أن يتمثلوه على رغم صعوبته في روايات ما بعد الطفرة. نشرت رواياتك السابقة من خلال دور نشر عربية، لكنك نشرت «المنهوبة» في نادي حائل الأدبي، كيف وجدت التعامل مع النادي وهل تشعر بالرضا لاختيارك النشر محلياً هذه المرة؟ - الصورة التي كونتها عن نادي حائل الأدبي تفيد بأنهم عمليون وصادقون في الوقت نفسه، البنود التي تخصهم بعد توقيع العقد معك ينفذونها من دون تأخير، حقوق النشر التي تخصك تأتيك على صندوق البريد مرفقة بخطاب بالغ التهذيب، ومتابعتك لمراحل طبع كتابك تتم أولاً بأول، وهذا لم يحدث لي مع الجهات التي طبعت كتبي السابقة، إنها المرة الأولى التي ألمس فيها أن النادي الأدبي كطرف ثان في اتفاق من هذا النوع يمكن أن يكون تعامله راقياً ومحترماً مع الكاتب، وبما أنها تجربتي الأولى مع ناد أدبي سعودي فإنني أؤكد أنها تجربة جميلة، وهذا يشجعني على اختيار النادي نفسه في المستقبل.