إذا كان الموسيقي الروسي الكبير ايغور سترافنسكي قد اعترف طوال حياته بفضل أستاذه رمسكي كورساكوف (صاحب «شهرزاد» و «عنترة») عليه، فإن سيرة حياته تقول لنا إنه لم يبدأ التأليف الموسيقي الحقيقي الذي سيجعله واحداً من أقطاب الموسيقى الكلاسيكية، وخصوصاً لموسيقى الباليه، إلا في عام 1910، أي بعد عامين من رحيل معلمه. في ذلك الحين كان سترافنسكي في الثامنة والعشرين، وكان دياغيليف مبتدع حركة «الباليه الروسي» قد طلب منه أن يكتب له قطعة للباليه، وعلى الفور ترك سترافنسكي العمل على أوبرا كان يزمع إنجازها بعنوان «العندليب»، وانصرف إلى كتابة ذلك العمل الذي سينتج بين ليلة وضحاها ويحمل إلى صاحبه شهرة ما بعدها شهرة: «عصفور النار». وبعد ذلك توالت أعماله الكبرى من «تطويب الربيع» إلى «بتروشكا»، فعودة إلى «العندليب» التي قدمت في عام 1914. وفي عام 1923، حين كان سترافنسكي قد تجاوز الأربعين من عمره، وكان قد انتقل إلى فرنسا بعد أن التجأ سنوات طويلة إلى سويسرا، كتب ذلك الباليه الذي يعتبر الأجمل والأقوى بين أعماله جميعا «أعراس»، الذي كان، من جديد، بناء من طلب لدياغيليف نفسه، الذي كان هذه المرة في فرنسا ليقدم عروض الباليه الروسي ويفتن أوروبا كلها بها. ونحن نعرف أن الحركة التي حققها دياغيليف في أوروبا في تلك السنوات مقدّماً من خلاله تلك الاستعراضات المدهشة في فن الباليه، تجاوزت ومن بعيد كونها مجرد أعمال موسيقية راقصة لتحدث ثورة هائلة وغير محدودة في العديد من المجالات الفنية بحيث أننا لو استعرضنا اليوم أسماء الفنانين الذين ساهموا في الرقص - طبعاً - كما في رسم الديكورات وكتابة الموسيقى وتصميم الأزياء وشتى الابتكارات المسرحية لوجدنا بعض أكبر الأسماء في المجالات الفنية المتعددة التي سادت خلال تلك الحقبة من القرن العشرين، لكننا نجد هنا أن هذه الإشارة كافية لتوضيح أهمية تلك الحركة التي يمكن العودة إليها مرات ومرات في مناسبات أخرى ونعود هنا إلى حديث هذا الباليه الفذ الذي وضع سترافنسكي موسيقاه في ذلك الحين. ومهما يكن من أمر هنا فإن باليه «أعراس» يعتبر من نتاجات فترة النضوج في حياة ايغور سترافنسكي. غير أن اللافت هو أن هذا الموسيقي إنما كتب «أعراس» بالتزامن، تقريباً، مع عدد من أعماله الأخرى التي ستحظى بدورها بشهرة واسعة مثل «حكاية جندي» و «ثعلب» وبعض الألحان الأوركسترالية المتنوعة. والمهم هنا هو أن كل هذه الأعمال، سواء أوضعها سترافنسكي من تلقائه أو كتبها استجابة لتوصية من فرق أو ما شابه إنما أتت لتشي باهتمام تجدد لدى هذا الفنان في اتجاه الموسيقى الشعبية الروسية، في معنى أن الموسيقي وضع معظم ألحانه في تلك الحقبة انطلاقاً من قراءته المعمقة لكتاب كان نشره في ذلك الحين كيرينسكي حول «الأغاني الشعبية الروسية». وانطلاقاً من هنا لا بد أن نلاحظ على الفور أن سترافنسكي استوحى الموسيقى الأساسية لباليه «أعراس» في لوحاته الأربع، مباشرة من صفحات ذلك الكتاب، غير أن الباحثين سيقولون لاحقاً أنه إنما اهتم بالإيقاعات هنا، أكثر بكثير من اهتمامه بالمعاني الرمزية الظاهرة والخفية لتلك الحكايات. ومن هنا ولدت ألحان هذا العمل التي، حتى وإن حملت خصوصيتها المطلقة، فإنها تبدو مؤسسة تمام التأسيس على طابع الغناء الريفي الروسي. أما الموضوع الأساس، كما يمكن لنا أن ندرك من خلال العنوان، فهو الاحتفال بعرس روسي تقليدي، عبر المرور بشتى المراحل التي يمر بها ذلك الاحتفال: وهكذا لوحة بعد لوحة يطالعنا إعداد العروس نفسها للاحتفال، ثم تأتي بعد ذلك زيارة الأهل، والبركة المعطاة للعروسين، قبل أن ننتقل في الجزء الثاني من الباليه إلى وليمة العرس نفسها، حيث يدور الرقص والشرب وضروب الطعام في صخب روسي عريق. وكل هذا يسبق ما تشتمل عليه اللوحة الثالثة من بدء استعداد العروسين للرحيل وهو رحيل ترافقه أصوات الأجراس صاخبة في كل مكان، ولكن يشوبها في الوقت نفسه شيء من الحزن والقلق اللذين يعكسان بالطبع حال العروسين وهما يدخلان حياة جديدة من الصعب أن يتكهنا بما ستكون عليه في الحقيقة. والحال إن هذا الجانب من الشعور إنما هو مرتبط هنا - وعبّرت عنه الموسيقى تعبيراً رائعاً - بذلك القلق الدائم الذي يعتصر الروح الروسية، ويكاد لا يظهر على حقيقته إلا في أقصى لحظات السعادة، حيث تولد هذه السعادة نقيضها، أو تذكر بالمجهول المقبل، وقد يكون من المفيد هنا أن نذكر كيف أن كبار الكتّاب الروس - وعلى رأسهم تولستوي ودوستويفسكي - قد عبّرا عن هذه السمة في عدد لا بأس به من أعمالهم. أما ايغور سترافنسكي، فإنه لكي يعبر عن هذا كله، جعل لموسيقاه طابعاً شديد الفاعلية، يكاد يدنو كلياً من مناخات النزعة الطبيعية من دون أية زينة لازمة. وهو، في سبيل التعبير عن هذا كله، أعطى الدور الأول للأوركسترا نفسها، من دون التركيز بقوة على أداء الآلات الفردية. ومن الواضح أن الفنان كان يسعى من خلال هذا، إلى تفادي الوقوع في فخ الرومانطيقية التي لم تكن تهمّه على الإطلاق. كان ما يهمه هو التركيز على الإيقاعات على اعتبار أنها المكان الذي يعبر فيه الواقع الطبيعي على نفسه، وتبدو الفاعلية في أعلى درجاتها التعبيرية. وإضافة إلى هذا كان همّ سترافنسكي أن يعطي للعمل وحدته التعبيرية كما وحدته الموضوعية في الوقت نفسه، وهو يدرك أن الموسيقى- في غنائيّتها المطلقة - هي التي يطلب منها هنا أن تلعب الدور الأول، طالما أن الرقص سيكون في نهاية الأمر مطبوعاً بطابع الرقص الجماعي أكثر منه بطابع الرقص الفردي. ومن هنا كان التركيز، بخاصة، على الآلات الإيقاعية، من استخدام أربع آلات بيانو إلى إدخال الكسيلوفون والأجراس وآلات القرع. والحقيقة أن النجاح الفوري الذي كان من نصيب هذا العمل، كان هو الذي دفع سترافنسكي إلى إعمال الفكر، حقاً، في تجديدات موسيقية ارتبطت لديه بإعادة اكتشاف مبادئ موسيقية تستند إلى شاعرية جديدة، كانت موضع الإهمال منذ زمن في أشكالها القديمة. وهكذا، إذ قدّم العمل، على رغم غنائيته، على شكل باليه إيمائي، من قبل فرقة «الباليه الروسي» تحت إشراف دياغيليف، كان مصيره أن يمهد الطريق لذلك النوع من الباليهات التجريدية التي سيكون لها الحظوة خلال العقود اللاحقة. ويشير المؤرخون، في هذا السياق إلى أمر بالغ الغرابة، وهو أن هذا الباليه، حين استقبل بشيء من التحفظ في بريطانيا المحافظة، كان الكاتب ه.ج.ويلز أول من تصدى إلى الدفاع عنه مركزاً على أنه من نوع الأعمال التي تفتح آفاق المستقبل، «وليس فقط في مجال الرقص» كما أكد يومها ذلك الكاتب «المستقبليّ» الكبير!. وبالفعل أسّس باليه «أعراس» لجزء كبير من فن الباليه في القرن العشرين، كما أنه، موسيقياً، يكاد يكون المؤسس الأكثر فاعلية - على خطى مدرسة فيينا - للحداثة الموسيقية التي لطالما ركزت على الإيقاع، وآلاته طوال العقود التالية من القرن العشرين. أما ايغور سترافنسكي، فهو ولد عام 1882 في روسيا، ليموت في عام 1971 في نيويورك، بعدما صار أميركياً، وبعد أن عاش ردحاً من عمره في فرنسا. وهو تدرّب موسيقياً كما أشرنا، على يد رمسكي كورساكوف. ونعرف أنه هاجر باكراً من روسيا ليعيش في أوروبا، غير أن ذلك لم ينسه، موسيقيا، أصوله الروسية، وهكذا ظلت موسيقاه مطبوعة بالتراث الروسي حتى آخر عمره، ما جعل كثراً يربطون بينه، كموسيقي، وبين مواطنه ومعاصره الرسام مارك شاغال، من ناحية تجذّر فنيهما في التقاليد الروسية. [email protected]