لطالما سحرتهم شهرزاد فاعتبروها رمز الشرف الجميل الساحر، والبعيد المنال. رمز الحكاية التي لا تنتهي. والمرأة التي تؤجل موتها وموت الحكاية ليلة بعد ليلة، فتنتصر بهذا على الملك القاسي وتبعده عن رغبة الانتقام المتواصل من النساء. لقد عرف الغرب الرومانسي، شهرزاد من خلال حكايات ألف ليلة وليلة، فكان ان اختارها من بين مئات الشخصيات التي تزدحم بها «الليالي العربية»، ليذكرها حتى حين يضع تلك النصوص جانباً. فشهرزاد، التي لا تشغل في الليالي أصلاً، سوى موقع الراوية، عرفت في شكل جيّد في المخيال الغربي الرومانسي، التواق الى كل ما هو غريب وذو معنى. وشهرزاد هذه سرعان ما استقلت بنفسها فصارت رمزاً وكناية. صارت حيناً بطلة رومانطيقية، وحيناً منافحة عن وجود المرأة وكنايتها. وفي أحيان كثيرة صارت حكاية الحكاية نفسها، والعنصر القادر في حد ذاته على ان يفسر أصل الفن، وبواعث الرغبات الإبداعية لدى المبدعين. فإذا أضفنا الى هذا ان شهرزاد، هي المرأة الشرقية المشتهاة والمنيعة، المرأة التي إذ توصل راغبها اليها، توصله بشروطها هي لا بشروطه هو، يمكننا ان نفهم كيف قيض لهذه المرأة الآتية من عمق أعماق التعسف السلطوي الشرقي، ان تعيش كل تلك الحياة، في الذاكرة، في الأدب. وكذلك في أعمال الكثير من الفنانين والكتاب. ليس من السهل، اليوم، احصاء كل الأعمال، الموسيقية والتشكيلية والأدبية والشعرية، ثم المسرحية والسينمائية التي كانت شهرزاد، لا «ألف ليلة وليلة» في حد ذاتها، ملهماً لها. فهي تعد بالعشرات، وكلها عرفت كيف تعطي لابنة الوزير «الثرثارة» تلك سمات شاملة ومثالية، تمتزج فيها المعرفة بالحساسية، والذكاء بالدهاء، وحس التمرد بالقدرة على أن تكون حنوناً كل الحنان. بالنسبة الى الأعمال الموسيقية التي اقتبست من «شهرزاد» نعرف طبعاً ان قصيدة رمسكي - كورساكوف السيمفونية التي تحمل الاسم نفسه «شهرزاد» هي الأشهر والأكثر حضوراً، والأكثر شرقية - وهذا أمر لا يمكن استغرابه من قبل موسيقي روسي اهتم بالشرق كثيراً، واهتم الى درجة انه كتب قصيدة سيمفونية رائعة ثانية، عن «عنترة» كما ضمّن الكثير من أعماله، ملامح عربية ساحرة. إذاً عمل رمسكي - كورساكوف هو الأشهر في هذا المجال، ولكن هناك عملاً آخر يحمل عنوان «شهرزاد» لا يقل عن ذلك العمل أهمية، وان كان يقل عنه حضوراً. نعني بهذا «شهرزاد» الفرنسي موريس رافيل. من ناحية مبدئية لا بد من القول إن رافيل كتب «شهرزاده» متأثراً بزميله الروسي السابق عليه، وقد أثار حماسه نجاح الباليه الروسي في نقل عمل رمسكي - كورساكوف، الى الخشبات الأوروبية، والباريسية خصوصاً، يوم عرف ذلك الباليه ازدهاراً ما بعده ازدهار. غير ان ذلك التأثر لم يمنع عمل رافيل من أن يكون مختلفاً تماماً، ومستقلاً تماماً، وربما - كما يرى البعض - أكثر صدقاً في تصويره لاستشراقية شهرزاد، فيما حاول رمسكي - كورساكوف ان يجعلها «شرقية» خالصة، أي صحراوية الايقاع، فيما كان من الطبيعي لموسيقى رافيل ان تكون أكثر مدينية في تعاملها مع الشخصية. يتكون هذا العمل الذي لحنه موريس رافيل في عام 1906، من ثلاث «قصائد شاعرية» كتبت للغناء والبيانو. ورافيل كتب هذا العمل انطلاقاً من نص كتبه كريستيان كلينغسور. غير انه بعد فترة يسيرة من كتابته على شكل عمل للغناء والبيانو، حوله الى عمل للغناء والأوركسترا. ولئن أتت موسيقى رمسكي - كورساكوف عربية أكثر منها شرقية، فإن رافيل حرص على ان يكون عمله استشراقياً شاملاً. وهكذا نرى القصيدة الأولى تحمل عنوان «آسيا»، وتبدو أشبه بدعوة الى الشرق، حيث عرف الموسيقي كيف يعبّر عن هذه الدعوة في تلحينه لعبارات مثل «آه كم أريد ان أشاهد دمشق ومدن فارس، ومآذنها المشرئبة نحو السماء» أو «آه كم اريد ان أزور فارس والهند ثم الصين، وأشاهد الماندارين يسيرون تحت مظلاتهم». ان رافيل عبر تلحين مثل هذه الأسطر جعل لقصيدته هذه معنى شمولياً، قد يبدو ظاهرياً، معبراً عن أجواء ألف ليلة كما وصلت الى الغرب، كمجموعة حكايات عربية/ آسيوية شاملة، لكنه في داخله أتى أشبه بتوليفة تصف صورة الشرق الملتبس الغامض كما يصوره الغرب لنفسه. من هنا تلك الشمولية في تلحين المقدمة، وذلك التركيز في جمل لحنية قد تتكرر، في هذا الجزء الأول، بين حين وآخر، لكن ايقاعاتها سرعان ما تتبدل على ضوء تبدل الأماكن التي تعبر عنها معاني الأسطر. أما القصيدتان الثانية والثالثة فتبدوان أكثر تركيزاً. الثانية تحمل عنوان «الناي المسحور» والثالثة «اللامبالي»، ويصفهما النقاد، بأنهما اقرب الى ان تكونا من نمط «موسيقى الحجرة» حيث تتضاءل أهمية التوزيع الاوركسترالي الفسيح لحساب توزيع ضيق تبدو سمته الرومانسية واضحة من خلال تركيزه على الآلات الوترية والجمل الممدودة. ويأتي هذا متكاملاً كلياً مع مشهد القصيدة الثانية حيث ترتكز الصورة على امرأة جالسة خلف نافذتها - المشربية - وهي تصغي بشغف ولوعة الى حبيبها وهو في الخارج يعزف على نايه لحناً حزيناً ساحراً. أما في القصيدة الثالثة فإن الأمر يختلف تماماً: اننا هنا أمام الدعوة اليائسة التي تطلقها المرأة العاشقة نحو حبيبها الذي يبدو واضحاً انه غير مبالٍ بها على الإطلاق. ان هذا الانحصار في القسمين الثاني والثالث من العمل، جعل النقاد يفضلون دائماً القسم الأول، معتبرين ان القسمين الثاني والثالث، إذا كانا يحملان قيمة موسيقية كبيرة، فإنهما لا يقدمان جديداً أو مفاجئاً، بل انهما يقدمان المرأة - المفترض انها شهرزاد - في صورة مناقضة تماماً لما هو معهود عنها في المخيلة الشعبية. ولعل هذا التفاوت في الرؤية بين أجزاء العمل الواحد، هو الذي جعل الظلم يحيق به، وجعل «شهرزاد» من أقل أعمال موريس رافيل شهرة. بل ان ثمة كثيرين يجهلون وجود هذا العمل أصلاً. مهما يكن فإن موريس رافيل، على رغم غزارة انتاجه، لم يشتهر شعبياً في شكل خاص، إلا عبر عمل واحد له، قد يرى كثيرون انه الأقل أهمية - موسيقياً، بين أعماله، وهو «البوليرو». ولد موريس رافيل عام 1875 في جنوبفرنسا، وانتقل طفلاً مع أهله الى باريس حيث درس وعاش وعمل وارتبط بالعاصمة الفرنسية التي كانت في ذلك الزمن تعيش نهضة فنية وموسيقية استثنائية. ولقد قال رافيل دائماً انه تأثر في شبابه بأستاذه غابريال فوريه كما تأثر لاحقاً بأريك ساتي، منكراً ان يكون قد ناله أي تأثير من معاصره ديبوسي، على رغم ان كثيرين يرون هذا التأثير الأخير أكثر وضوحاً. المهم ان رافيل سرعان ما استقل في شخصيته الموسيقية، وراح يبحث عن مصادر الهامه خارج فرنسا، لا سيما في اسبانيا التي أوحت اليه ب «رابسودي اسبانية» وأوبرا «الزمن الاسباني»، كما ب «البولير» نفسه. كذلك نجده متأثراً بالموسيقى الروسية، لا سيما بعد ارتباطه بمصمم الباليه الروسي دياغيليف. وهو عبر هذين التأثيرين اكتسب هواه «الشرقي» الذي نجده ماثلاً في بعض أعماله. ورافيل مات عام 1937 في حادث سيارة قضى عليه وأنقذه من انهيار عصبي كانت بوادره بدأت تظهر عليه في شكل خطير. [email protected]