للعام الخامس على التوالي تُقر السعودية موازنات قياسية عالية، لمواجهة الحاجات التنموية والضرورية من مشاريع للبُنى التحتية في المجالات المختلفة كافة، وهذا ليس بمستغرب، فالملك عبدالله بن عبدالعزيز كان صريحاً في كل مرة تعلن فيها الدولة موازنتها السنوية، حريصاً على أن تترجم هذه الأرقام إلى مشاريع حقيقية وواضحة. وموازنة هذا العام كانت من ضمن سلسلة الأرقام القياسية، إذ أعلن عن 702 بليون إيرادات متوقعة، وتخصيص 690 بليون ريال للمصروفات. ولرغبة الدولة في توفير مساكن للمواطنين فقد قررت صرف 250 بليون ريال لتمويل بناء 500 ألف وحدة سكنية التي سوف تتولى تنفيذها وزارة الإسكان، واعتمدت 265 بليون ريال لمشاريع جديدة ومراحل إضافية لعدد من المشاريع التي تم اعتمادها، وفي سبيل تحسين مستوى التعليم والتدريب المهني تم اعتماد 186 بليون ريال، وكالعادة جاءت الصحة والتنمية الاجتماعية كأحد اهتمامات الدولة بالمواطنين، وخصصت لهما 87 بليون ريال، وتتضمن اعتماد استكمال إنشاء وتجهيز مراكز الرعاية الصحية الأولية وإنشاء 27 مستشفى جديداً. الموازنة السعودية في مجملها حملت أرقاماً كبيرة ومطمئنة للمراقبين أن الاقتصاد السعودي لا يزال يحتفظ بقوته من حيث الملاءة المالية، وإيراداته العالية من النفط بعد أن ارتفعت صادرات السعودية من النفط إلى 10 ملايين برميل يومياً. وبقدر الأرقام العالية المعلنة للمشاريع، إلا أنها في المقابل تبقى أرقاماً من دون تفاصيل، ومن دون توضيح، ما إذا كانت ستترجم إلى واقع، أم أنها ستبقى فقط أرقاماً للحفظ. خلال السنوات الماضية ارتفعت حدة الانتقادات للجهات الحكومية الخدمية من نقص المراكز الصحية والمهنية والتعليمية وأدائها السيء، فضلاً عن حالات الفساد من تعثر وعدم اكتمال المشاريع، والأرقام المبالغة، وشكوى الكثير من الإدارات الحكومية من عدم صرف مبالغ المستحقات المالية للمشاريع المعتمدة، وهذا ليس بخافٍ على وزارة المالية والعاملين فيها، فمعظم الصحف نشرت هذه الشكاوى، لا يوجد مسؤول حكومي لم ينتقد تأخر صرف الاعتمادات، أو توقف المشاريع، ومع كل هذه الانتقادات والملاحظات، تصر وزارة المالية على أن تصدر لنا بيان الموازنة من دون تفاصيل، أو توضيح، وكأن هذه الأرقام لا تخصهم ولا تعنيهم، منذ أن عرفنا أرقام الموازنة وهي تصدر بهذه الطريقة المبهمة. كان من الأجدى لوزارة المالية أن تزيل عن نفسها هذه الشكوك والاتهامات بنشر تفاصيل الأرقام المعلنة، فمثلاً نحن لا نعلم كم خُصص لإدارة الدفاع المدني في المملكة، والجميع على علم أن وسائل السلامة والحماية في المدارس والمباني الحكومية والأهلية غير جيدة، هناك مناطق ومدن لم تصلها خدمات الدفاع المدني، كنا نود أن نعرف حجم الموازنة المرصودة لحرس الحدود، وهو الجهاز الأمني الأول للدفاع عن أرض الوطن من المتسللين والهاربين عبر حدودنا، حجم المضبوطات والمتسللين يومياً من جنوب السعودية مخيفة ومرعبة لأمن الوطن وأهله، لم يوضح لنا البيان حجم موازنة وزارة الإعلام، الجهاز الحكومي وقنواته الفضائية وإداراته المختلفة. في ما يتعلق بتمويل بناء المساكن، التي خُصص لها 250 بليون ريال، لم يوضح البيان مدة تنفيذ هذه المشاريع والمناطق التي ستتم فيها، وهل ستنفذ على مراحل، أو أنها فقط مرحلة واحدة. الحقيقة لا نشكو من الموازنة ولا أرقامها، إنما نشكو من اصرار وزارة المالية على أن تعرضها لنا بهذه الطريقة التي تخلو من التفاصيل، وإجبارنا على أن نقبلها، كنت أتمنى لو أن القائمين على إعداد بيان وزارة المالية أصدروا ملحقاً توضيحياً لخريطة المشاريع التي ستنفذ وكلفتها، واسم المقاول المنفذ، والجهة الحكومية المشرفة، والمدينة أو المنطقة التي سيقام فيها المشروع، وإن لم يكن ملحقاً إضافياً على الأقل على موقعها على «الانترنت»، حتى تسهل للناس معرفة تفاصيل هذه الأرقام، ماذا كان يضر وزارة المالية لو أنها رصدت لنا المشاريع التي لم تنفذ العام الماضي كجزء من المسؤولية وحتى تبعد عنها الشكوك والظنون في أنها تعرقل تنفيذ المشاريع في عدم اعتماد صرف مبالغها. أعتقد أن استمرار نشر بيانات الموازنة بهذه الطريقة هو أسلوب تقليدي، ولا يمكن فهم أن ترصد كل هذه المبالغ العالية من الدولة التي تخصصها لرفاهية المواطن، من دون أن يعرف تفاصيلها وأين تنفذ، ولا بد من جهات رقابية أخرى تطالب بنشر تفاصيل وتوضيح أكثر، مثل مجلس الشورى، والمجلس الاقتصادي الأعلى، وديوان المراقبة العامة، وهيئة مكافحة الفساد، وهذا الجهاز مهم أن يطلع على تفاصيل الموازنة. * إعلامي وكاتب اقتصادي. [email protected] twitter | @jbanoon