دخلت المواجهة بين الحكومة وتيار الإخوان المسلمين في مصر مرحلة جديدة من التصعيد بالتحفظ على أموال 342 شركة من شركات الجماعة، إضافة إلى التحفظ على أموال 1105 من جمعياتها الخدمية و81 مدرسة، مع وضع نشاطات الجمعيات والمدارس تحت إشراف حكومي. ولم يمض يوم على إعلان الوزير خالد حنفي أن التحفظ، ليس «تأميماً ولا مصادرة»، حتى صرّح رئيس الشركة المصرية لتجارة الجملة أيمن سالم للصحافة المحلية بأن «تأميم» الشركات التي يملكها القطب الإخواني خيّرت الشاطر ليس مستبعداً «نظراً لأن الشركة خسرت مبالغ كبيرة خلال الفترة الماضية». وعلى رغم أن التحفظ على مؤسسات تملكها الجماعة بدأ قبل شهور، فامتداده إلى سلسلتين تجاريتين، مملوكتين لقطبين إخوانيين بينهما نائب المرشد خيرت الشاطر، ولّد رد فعل مختلفاً نوعياً، إذ حرّضت مواقع للتواصل الاجتماعي، تنتسب إلى تيار الإخوان المسلمين، على تخريب سلاسل تجارية غير حكومية، زاعمة أن هذا يمثل رداً على التحفظ على أموال قيادات الجماعة. اندفاع تيار الإخوان المسلمين على طريق ردود الفعل المستهجنة اجتماعياً بالتحريض على العدوان على مؤسسات غير مملوكة للحكومة ولا علاقة لها بصراعها مع تيار الإخوان المسلمين قد يجوز تشبيهه بقطع الطريق، التهمة التي صدر بسببها حكم بالإعدام على مرشد الجماعة محمد بديع، من حيث إنه انتقال من المواجهة مع الحكومة إلى المواجهة مع المجتمع، على اتساعه. وبغض النظر عما يقوله الإخوان المسلمون عن صدقية الاتهامات بقطع الطريق، وما يقوله غيرهم عن احتمالات التراجع عن أحكام الإعدام، فتعليق المرشد على حكم الإعدام بقوله: «أحكام الإعدام أسمى أمانينا»، هو كالتهديد بتخريب سلاسل تجارية خاصة، تعبير عن اليأس. لكن اليأس قد لا يكون هو ما تريده دولة لم تقبل، أبداً بالإخوان، ولم تستغنِ عنهم، في مختلف عهودها. ولا بد من الانتباه إلى ما توحي به المصادر المطلعة على الاتصالات بين الحكومة والجماعة، من أن الشاطر الذي صودرت ممتلكاته قد لا يكون بين القيادات التي تطالب الجماعة بالإفراج عنها توطئة لتفاهم مع الحكومة، وإلى حقيقة أن رجل الأعمال الإخواني البارز حسن مالك حر طليق، ولم يرد اسمه ضمن من أسقط الرئيس السابق عدلي منصور قرارات الإفراج عنهم. فهل يعني هذا أن مالك يقوم بدور ما في الاتصالات بين الحكومة والإخوان؟ الإعلام المحلي يصر على أن الوزير السابق محمد علي بشر ونائب الرئيس السابق المستشار محمود مكي هما المكلفان بالوساطة (إن كانت هناك وساطة) بين الحكومة والإخوان المسلمين، لكننا لا نرى معنى لاستثناء حسن مالك من التضييقات المفروضة على المنتمين الى تيار الإخوان المسلمين، من غير المسجونين أو الهاربين، سوى أنه يلعب دوراً في الاتصالات بين الإخوان والحكومة، أما إن كانت هذه الاتصالات قد بلغت مرحلة الوساطة أم لا، فهذا أمر لا سبيل إلى معرفته. ومن الواضح أن أهم ما يشغل الحكومة اليوم هو الاستعداد للانتخابات البرلمانية، وهو ما يحتم سرعة البت بمسألة السماح لعناصر منتمية إلى تيار الإخوان المسلمين بخوض الانتخابات النيابية، كمنافسين على المقاعد الفردية، أو عدم السماح لهم. وربما كان الاحتمال الثاني أكثر ما يسعى الى تجنبه الطرفان: الحكومة وتيار الإخوان المسلمين. وقبل أن نوضح ما نعتبره السبب في ذلك، يتعين، أولاً، أن نوضح السبب في أننا نميز بين تيار الإخوان المسلمين والجماعة التي تحمل ذلك الاسم. من الصعب الحديث الآن عن طرف يقف متميزاً، في الشارع المصري، اسمه جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن تبعثرت أشلاء الجماعة بين السجون والمنافي والمهارب والكيانات السياسية البديلة. ومشكلة الحكومة هي مع تيار يحمل شعارات الإخوان المسلمين وألويتهم، وتعلن انتسابها إليه كيانات غامضة تمارس الاغتيال والتفجير من بُعد. من هذه الكيانات «أنصار بيت المقدس»، و «كتائب الفرقان». أما التمردات الشبابية ذات الطابع الديني، فمن الواضح أن غالبية المنخرطين فيها هم من السلفيين أو من تيار السخط العام. ومعظم هؤلاء ينتمون اليوم، أو يتوقعون الانضمام في الغد المنظور، إلى تلك الشريحة العريضة من السكان التي وصفها كارل ماركس (في «رأس المال») بأنها «فيض السكان الدائم» أو «الجيش الصناعي الاحتياطي» الذي تألف كنتيجة لتزايد أعداد الرأسماليين في قطب وتزايد البروليتاريا في قطب مقابل، مع فارق جوهري لم يخطر ببال ماركس، وهو أن «الجيشين» البروليتاريين، في مصر، ينتميان إلى قطاع الخدمات بأكثر مما ينتميان إلى القطاعين الصناعي أو الزراعي. وربما نال غرق عناصر الإخوان المسلمين في «فيض» السلفيين والساخطين غير الإخوانيين من قدرة قيادات الجماعة، على توجيه حركات التمرد وعلى التفاوض باسمها، لكنه يتيح لهذه القيادات ذاتها فرصة تخليق قاعدة شعبية لأي تنازلات محتملة عن مطالب تبدو اليوم خيالية، مثل عودة الدكتور محمد مرسي إلى قصر الرئاسة، ولو لساعات يعلن بعدها تنازله عن «منصبه». فقبول عاطفيين غير ملتزمين تنظيمياً بطروحات كهذه قد يكون أسهل كثيراً من قبول الأعضاء بها. وقد يضع هذا الأمر قيادات جماعة الإخوان المسلمين حيث تريد الحكومة. لكن استمرار التشابك بين عناصر من جماعة الإخوان وعناصر من جيش احتياطي الغضب العام يمكن، إن سمحت له مماحكات الحكومة والجماعة بأن يعيش طويلاً، أن يسفر عن واقع جديد يفاجئ الاثنين ويحبط خططهما. ولهذا، فقد يكون الطرفان – الحكومة والإخوان – مدركين لضرورة التوصل إلى تفاهم - قد لا يأخذ صيغة حل وسط معلن إلا في مراحل لاحقة – يسمح لعناصر من تيار الإخوان المسلمين، وربما من الجماعة ذاتها، بخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة. وفي الطريق إلى الانتخابات، تتزود الدولة، وهي تؤسس جمهوريتها الجديدة، بعديد متنوع ومتزايد من الأدوات. فالتحفظ على المشاريع التجارية الإخوانية عزَّز مركز «المصرية لتجارة الجملة»، وهي من أهم أدوات الدولة، منذ 1968 للتدخل السريع في الأسواق، بهدف مكافحة التضخم، وأمّن للدولة أدوات أخرى كثيرة، فيما يتساقط ما لدى جماعة الإخوان من أدوات امتلكتها، برضا الدولة وتحت إشرافها، في الفترة من 1987، عندما أدخلهم الرئيس السابق حسني مبارك ساحة العمل البرلماني ضمن التحالف الإسلامي (الإخوان، حزب العمل المصري، حزب الأحرار) تحت شعارهم العتيد «الإسلام هو الحل» ليحققوا نجاحاً باهراً، كان من أهم ملامحه فوز السياسي القبطي جمال أسعد عبد الملاك بمقعد في البرلمان،على قائمة الإخوان، إلى 2011 عندما انفتح أمامهم الباب للاستيلاء على سلطة الحكومة والبدء بمحاولة تفكيك الدولة. فهل يمكن تدهور موقف الإخوان أن ينبههم إلى ضرورة الإسراع، من جانبهم، بالتوصل إلى قرار يسمح لهم بحضور ما في البرلمان المقبل؟ لا نعرف سوى أن العائق الأكبر بوجه قرار كهذا، الآن، وفي ضوء صوغ محمد بديع الشعار الإخواني القديم «الموت في سبيل الله أغلى أمانينا» على النحو الذي أشرنا إليه، يتمثل بعقدة «الماسادا» التي أشار إليها الأديب الطبيب محمد المخزنجي ناقلاً، بمقدار من التصرف، ما قاله عنها أستاذ الأدب العبري في جامعة هارفارد روبرت آلتر، مترجم الإنجيل والناقد المُعلم لترجمات النصوص المقدسة، في معرض التشكيك بجدوى لجوء السلفية الصهيونية إلى سياسات القوة لحل تناقضات راهنة ملحّة: «أخشى أن تكون المراسم العسكرية، في ضوء المشاعل، فوق قمة الماسادا، ترجمة حرفية ومشكوكاً في دقتها، تنقل إلى الحياة العامة مجازاً أدبياً، وخلطاً (...) للهولوكوست والمذابح وحالة الحصار الراهنة (...) تحت عنوان «الماسادا» (وأن تكون هي) ما يبقى من أثر للشعر، مُخبّل للعقل وهو يتدبر قضايا سياسية ملحّة». وما لم يفق الإخوان من حالة «التدويخ الشعري» التي تحدث عنها محمد المخزنجي – ربما في إشارة ساخرة إلى ما قاله الشاعر الأميركي والاس ستيفن عن الشعر باعتباره مقاومة للفهم - في نقده للعقل الإخواني حبيس المربع «الماساداوي» منذ عام 1965، ليلحقوا بالجمهورية الجديدة، عبر المشاركة في ثالث الاستحقاقات المؤسسة لها، فستبقى عودتهم إلى ساحة العمل العام معلقة بانتظار الميلاد الرابع لعنقاء الجماعة الذي قد يأتي، إن أتى، بعيداً من رقابة الرأي العام وتحت هيمنة السلطات التنفيذية للدولة، ممثلة بأجهزتها الأمنية، كما جرى عندما وجهت وزارة الداخلية، قبل أربعين سنة، الشيخ عمر التلمساني، إلى إعادة تخليق الجماعة، في تجسدها الثالث، على الصورة التي أرادها الرئيس أنور السادات. وسبق ذلك تجسدها الثاني على يد جمال عبدالناصر، لحظة تأسيس الجمهورية، الذي تمردت عليه فاقتلعها من المشهد السياسي المصري. وقد لا تختلف مآلات الميلاد الرابع، الذي استبعد الرئيس السيسي أن يتحقق في عهده، عن مآلات الميلادات الثلاثة السابقة، إلا إذا انتبهت عنقاء الجماعة، في تجسدها الآتي، إلى الختم المطبوع على عنقها: سراي عابدين في 1928. * كاتب مصري