إذا كانت كلاسيكيات السياسة قد عرّفت الثورة بأنها كمصطلح سياسي هي الخروج عن الوضع الراهن وتغييره - سواء إلى وضع أفضل أو أسوأ - باندفاع يحركه عدم الرضا والتطلع إلى الأفضل أو حتى الغضب، فإن المحتجين في الوطن العربي راهنوا على أن الثورات التي يقومون بها إنما هي لخلق واقع أفضلَ من سابقه، أكثر حرية، وأكثر ديموقراطية، وهذا ما لا يختلف عليه عاقلان في العالم، حيث إن الأنظمة العربية لم تترك فرصة لشعوبها للصلح، أو للتفاهم. والحقيقة أن حديث الأنظمة باتَ مكروراً، حاله في ذلك حال الثوراتِ أيضاً، لكن قلما نجد نقاشاً حول صلاح الأنظمة العربية، فصلاحها ضرب من ضروب المستحيل. إذاً، فالحديث عن الثورات قد يكون أجدى لا سيما أننا نرى إليها كحاملةٍ لمستقبل شعوبنا. الثورةُ فعل قوّة وسيل جارف لا يمكن إيقافه، حتى العناصر الهادئة إلى جانب النهر، لا بدّ أن السيل لن يترك لها فرصة للتفكير بالانضمام أو لا، لأنّ بهاء قوّته سيضمها لا محالة. على مرّ التاريخ كانت الدول البعيدة من الثورات تحاول كسب ودّ الثورة وفيما بعد تحاول الثورة كسب ودّ دولة الثورة، دائماً تسعى هذه الدول إلى استمالة الثورة وكسب تعاطفها، إلا في سورية فالأمر معكوس! إذا استجدت الثورة فإنما لشعورها بالضعف، ليس حيال ما تثور عليه، إنما حيال فئاتها المستهدفة المعوّل على انضمامها، حيال مجتمع الثورة نفسه، ما يعني أن الثورة لم تأخذ شرعيّة اكتمالها. الأنظمةُ الاستبدادية تزداد قوّة من ضعف الحركة الثورية ضدها. الاستبداد عنوان مكتمل بحدّ ذاته، إن اشتركت أنظمة ما بهذا العنوان فإنه من غير المنطقيّ القول إن ثمة نظاماً أكثر استبداداً من نظام، إنما الأصح أن ثمة ثورة أقل قوة واكتمالاً من ثورة. وفي تركيبة معقّدة من المجتمعات كتركيبة المجتمع السوري يحقّ للثورة أن تغفل ما يحيط بها إقليمياً ودولياً فيما لو كان مجتمع الثورة المعوّل على انضمامه، أي المجتمع المستهدف، قد انضمّ فعلاً، وهذا ما لم يحصل إلى الآن... ولا أدري إن كان سيحصل. وفي حال فشلت الثورة في إقناع مستهدفيها بالانضمام، أو نجح النظام في إقناعهم ببقائه، في هذه الحال ستتجه الثورةُ إلى الآخر. عندئذ، قد تنجح الثورة في أن تحل محل النظام، ستنتصر عليه بناءً على إرادة هذا الآخر، الأمر الذي يفقدها قدسيتها، وإذا أخذنا في الاعتبار أن شعار الثورة هو التغيير للأفضل عندئذٍ تكون انتصرت ولم تنجح. وهكذا، فإن هذا الآخر الذي نصر الثورة على النظام، قد ينصر أية حركة على الثورة إذا سعت الثورة لأن تكون مستقلّة وسيدة قرارها الوطني الذي ربما لا يوافق سياسة الناصر. وفي هذه الحال من الرهان على الآخر فإن من المنطقي حدوث احتمال أن تقدّم الثورة صكّ تنازل لهذا الآخر عن استقلالها وحريتها وكرامتها وأخلاقها لكي يستمر في نصرتها وتستمر في الحكم، الأمر الذي لا يكتفي بتدنيس الشعارات التي قامت الثورة من أجلها واستغنت عنها لاحقاً، بل يذهب أبعد من ذلك بجعل هذه الشعارات أضحوكة ومثار سخرية دائماً، بل ومثار تخوين أحياناً، وهذا إن أدى إلى شيء فإنما يؤدي الى عدم فاعلية هذه الشعارات في أية ثورة مقبلة مكتملة العناصر وصادقة، لا سيما أن هذه الأخيرة قد تقوم فعلاً لتطهير الثورة التي سبقتها من الدنس الذي ألحقته بنفسها نتيجة استغنائها عن مبادئها بغيةَ انتصارها وبقائها. إن هذه النقاط يجب أن يرعبنا وجودها في الثورات أكثر من رعبنا لوجودها في الأنظمة، فنحن نحاول أن نقومَ بثوراتنا على أنظمة تتميز بكل ما أسلفت... فهل خيار انتصارنا مرهون بممارساتٍ مماثلةٍ لممارسات الأنظمة؟ سؤال برسم الثورات.