يبدو تعبير الحرب الأهلية بشعاً، مرعباً ومحيلاً إلى تقاسم مواقف بين طرفين يتصارعان عسكرياً لا يحق لأحدهما احتكار وقوفه إلى جانب الحق. إنه، وفقاً لهذا الانطباع، نقيض تعبير الثورة الموحية بوحدة الثوار، أو الشعب الثائر كله من أجل قضية عادلة ضد حفنة من المتحكمين بمقدّراته. ينتشي حامل القضية بتسميته ثائراً سواء كان يخوض الثورة سلمياً أو بالسلاح، ويشعر بالإهانة إن قيل له إنه طرف في حرب أهلية حتى وإن كان القائل منحازاً تماماً لقضيته. ولكن، هل انتصرت قضية كبرى من دون أن تنطوي على انقسام يقل أو يزيد بين أنصارها وخصومها؟ عدالة القضية الكبرى أو جورها أمر يقرره المرء وفقاً لمنظوره. لكن القضية الكبرى تنطوي بالتعريف على قلب لوضع اجتماعي - سياسي - اقتصادي، على تغيير في أشكال المؤسسات وأساليب الحكم ومرجعياته وطبيعة القابضين على السلطة. شن السوفيات حرباً شعواء على مؤسسة جائزة نوبل حين منحت بوريس باسترناك جائزتها عام 1958 عن روايته «دكتور زيفاغو». لم يكن الرجل معادياً بشكل صارخ للنظام السوفياتي إنما كتب عن الحرب الأهلية بين الجيشين الأحمر والأبيض عقب انتصار الثورة البلشفية مصوراً البشاعات المرتكبة من كلا الجانبين سعياً لتحقيق أهدافهما السياسية. كان هذا غير ما ظل التاريخ الرسمي السوفياتي يقوله: انتصرت الثورة لأن الشعب كله وقف إلى جانبها لكن أحد عشر جيشاً أجنبياً تدخّل لإجهاضها. تدخّل الغرب الرأسمالي حقاً. ولكن، أكان بوسعه إشعال حرب أهلية دامت ثلاث سنوات لولا معاداة قطاعات شعبية يصعب تقدير حجمها موضوعياً. وفي فرنسا، لم تبق إلا قلة قليلة من المؤرخين تنكر أن ثورتها لم تؤد إلى حرب أهلية طاحنة دامت سنوات واستمرت آثارها عقوداً. أما الأميركيون، فوفروا الجهد على المؤرخين وأطلقوا هم على ثورتهم لتحرير العبيد عام 1860 اسم الحرب الأهلية. وهل أن الهزيمة تكفي لأن نزيح عن ذاكرتنا ثورة الجمهوريين الإسبان ضد الملكيين عام 1936؟ لقد كانت تلك حرباً أهلية بامتياز كما يعرف الجميع. تبقى تلك الحالات ثورات على رغم ما انطوت عليه من دماء وبشاعات وانقسامات لم تتولّد عن عدالة قضية الثوار بل عن قوة المصالح والولاءات التي جعلت الطرف المعادي للثورة يتمترس وراء قضيته بعد أن شرعنها أيديولوجيا: تفوق البيض، طاعة الكنيسة، الوقوف بوجه مؤامرة شيوعية عالمية، محاربة الإرهاب أو عملاء الإمبريالية وما شئتم من أفكار نظرية. للحالة الفرنسية والأميركية دلالة هائلة في ما يتعلق بوضع الثورة السورية. نجح طرف في الحرب الأهلية هنا وانهزم هناك حسب قدرته على اجتذاب قطاعات فاعلة من المعسكر الآخر وتحييد قطاعات أخرى وشلّ ثالثة. سيضيف آخرون عوامل التسليح والتمويل وحرب الدعايات التي تلعب دوراً هائلاً في ترجيح كفة طرف على آخر. إنما لا تصنع تلك العناصر المساعدة النصر ولا الهزيمة. لقد زجت أميركا كل قدراتها العسكرية وضخت أموالاً لا حصر لها لدعم مشروعها العراقي لكنها انتهت إلى تسليمه حليفاً لأكبر خصومها. دلالة الثورتين/الحربين الأهليتين الفرنسية والأميركية في هذا السياق تكمن في اتخاذهما طابعاً جغرافياً طائفياً لم تخطّطا له: شمال ضد جنوب في الولاياتالمتحدة، وسط وشرق ضد غرب وجنوب غرب في فرنسا. ولا يجب أن يهرب الثوار السوريون من الاعتراف بهذا الواقع. إنكار هذا الواقع بالأحرى تكريس لحرب أهلية، والاعتراف به يعني للساعين إلى تصعيد واستعادة زخم الثورة تعيين القوى التي لا تزال مترددة أو خائفة أو ممتنعة عن دعم الثورة: الأسباب، إمكانيات تغيير تلك المواقف، سبلها. لم يرض بعض الأصدقاء من قادة المعارضة السورية عن مقال كتبته قبل أكثر من عام في «الحياة» دعوت فيه إلى استخلاص الدروس من تجربة المعارضة العراقية ضد نظام البعث العراقي. كان ثمة، ولا يزال، تحاش مقصود للمقارنة مع العراق لأنهم اختزلوا أسباب سقوط نظامه إلى الغزو الأجنبي لا إلى الكره السافر للعراقيين لنظام صدام الذي أنجح الغزو. وظل السؤال عقيماً: هل ستكرر سورية النموذج التونسي أم الليبي؟ حتى صار هذا السؤال مثار سخرية إذ بدت دموية الثورة الليبية جرحا بسيطاً بالمقارنة مع الثورة السورية. العلويون يتدفقون إلى طرطوس التي تصفها «نيويورك تايمز» بأنها مدينة تعج بالحياة تتهيأ لأن تحول نفسها موطناً لهم. والدروز يعيشون في كوكب ساكن بعيد اسمه السويداء لم يحرّكه خطاب وليد جنبلاط الناري ضد الأسد. المسيحيون يخشون من انتصار ثورة ضد نظام لم يتعاطف كثيرون منهم معه. الفنانون والمثقفون الذين أنتجوا أعمالاً جريئة ناقدة حائرون. الأكراد الثائرون ضد البعث لا يحملون السلاح بوجهه بل بوجه الثوار. أكثر مأسوية من كل هذا وذاك: يكاد العلويون الذين كانوا سبّاقين في معارضة نظام الأسد متعرّضين إلى قمعه الوحشي، سواء كانوا من رابطة العمل الشيوعي أو جناح صلاح جديد من حزب البعث أو من المبدعين، أن يختفوا مجبرين عن مجريات الثورة. هل يكفي الثوار الحديث عن «إخواننا» العلويين لكي يضفى على الثورة طابع وطني يعد بأفق تسامحي، تعددي وديموقراطي، وقد تم تهميش كل هؤلاء؟ كل هؤلاء، لا سيما العلويين، خائفون من خطاب الإسلام السياسي المتفاوت في تشدده والذي تتصاعد سطوته حتى يوشك أن يكون الخطاب الرسمي للثورة. وهم خائفون أيضاً من تعاط لا مبال مع هموم مشروعة لإثنياتهم ومناطقهم وطوائفهم يتغلّف بعبارات «دولة المواطنة» التي تذيب الأقلية في بحر الغالبية العددية. لكي لا تنتصر الثورة السورية، وهي منتصرة كما تدل المعطيات على الأرض، كما ينتصر جيش على آخر في حرب عسكرية، لنعترف أن سورية تعيش حرباً أهلية. والحرب الأهلية لا تعني بالضرورة تعادلاً في التأييد الشعبي الذي يحظى به كل من طرفي الصراع، بل في وقوف كتلة لا يستهان بها مترددة تتعاطف مع قضية الثورة أو تؤيدها لكنها لا تتعاطف مع أساليب وخطاب المتحكمين بالثورة. وحرب سورية الأهلية انطلقت من رحم ثورة ضد نظام أفسد، بل عدَمَ، الثقافة السياسية لثلاثة أجيال من السوريين، فحوّل خطاب كثير من معارضيه إلى مرآة عاكسة لخطابه: سلطة سنّية بديلاً لسلطة علوية، سلطة الدين بديلاً عن سلطة العلمانيين، ولم يحوّله إلى خطاب جذري الاختلاف يرفض استبدال استبداد بآخر. والأمر المثير للقلق أن مفكرين معارضين كباراً من السوريين لا يزالون يعوّلون على وجود كتلة كبيرة من المثقفين العلمانيين كفيلة بتكييف نظام ما بعد الأسد ومنعه من التحول إلى نظام ديني لمجرد أن هؤلاء متجاوزون للعقل الأحادي. ولعل نسبة المثقفين والمبدعين العلمانيين إلى عدد السكان في لبنان تتجاوز مثيلتها في سورية ومعظم البلدان العربية إن لم يكن كلها. لكن هؤلاء لم يستطيعوا إخراج بلدهم من الأزمة البنيوية التي صاحبته منذ نشوئه. لقد عوّل كثير من الديموقراطيين العراقيين المعارضين لنظام البعث العراقي على هذه الظاهرة بالذات ونسوا، أو تناسوا، أن الميلشيات المدججة بالسلاح والمال والمدعومة من قوى خارجية ستخلّ بميزان القوى بشكل كاسح لصالحها. وفوق هذا كله فإن اليسار والحركات المدنية لن تتمكن من لعب الدور الذي لعبته وتلعبه مثيلتها في مصر. فلم يتدفق السلاح إلى الإخوان والسلفيين في مصر. ولم تتخذ الثورة طابعاً دموياً فيها. لكن الأهم من كل هذا هو تمتّع مصر، مثل باقي الأنظمة غير العقائدية، بمؤسسات لم تتعرض للانهيار بانهيار النظام السياسي وحافظ كثير منها على قدر من المهنية في أشكال تنظيمه وممارساته. وليس هذا حال النظم العقائدية التي سيّست المؤسسات فلم يعد بينها وبين ماضيها ودورها المفترض صلة بعد أن تشخصَنت وصارت ملحقاً بالرئيس وعائلته وحزبه وأجهزة مخابراته. إنها مؤسسات مرشحة للانهيار مع انهيار النظام. ستنتصر الثورة السورية. وستحتفل غالبية الشعب السوري بهذا الانتصار. ولكن بين الانتصار والفرحة الغامرة المتوقعة وبين بناء دولة مواطنة مدنية ديموقراطية تعددية فجوة كبيرة نتمنى ألا يكون الوقت قد تأخر كثيراً لردمها، وألا تنطوي عملية الانتقال هذه على إراقة مزيد من الدماء يسعى المنتصر فيها إلى سحق من لم يقفوا معه منذ البدء، ويسعى الأخيرون فيها إلى تأكيد وجودهم مضطرين إلى التحالف مع فئات محسوبة على النظام القديم. * كاتب عراقي