كما في مختلف المدن العربية التي أزهر ربيعها ثورات، طغت السياسة، تعبوية واحتجاجية، على الأعمال الفنية التي استوطنت، ربما للمرة الأولى، ساحات المدن اليمنية وجعلتها بؤراً نابضة بالخطاب المعارض وأصحابه. ولعل حضور الفن في الساحات كان في حدّ ذاته حدثاً «ثورياً» في بلد قلّما تعامل مع الفن باعتباره جزءاً من حياته اليومية المركّبة أصلاً على تقاليد محافظة وغالباً عشائرية. لكن، منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية في شباط (فبراير) الماضي، تحولت ساحات الاعتصام فضاءً يزخر بمختلف الأنشطة الفنية، وهذا وضع يخالف طبيعة المجتمع اليمني الذي اعتاد بقاء علاقته بالفن موسمية. وللمرة الأولى تأتلف الفنون بمختلف أنواعها في مكان يمني واحد. والأهم هو كسر عزلة بعض الفنون الوافدة، مثل «الراب»، وانحسار الانحيازات عند الجمهور. ولئن بقي انقسام الوسط الفني على ما هو عليه بين معارضة وموالاة، ولزم بعض المطربين الكبار الحياد، فإن فن الساحات جاء شبابياً بامتياز، فباتت خيم المعتصمين مشاغل يومية لا تهدأ، تنتج فيها عشرات المواهب الشابة أعمالاً غنائية وموسيقية وتشكيلية ومسرحية. ظهرت فرق موسيقية جديدة فرضتها الثورة. كما شاركت فرق شهيرة، مثل «فرقة عدن المسرحية» بأعمال ناقدة، من قبيل «العجائز يشتوا يسقطوا النظام». وفي صنعاء برزت للمرة الأولى وجوه شابة، قدمت اسكتشات كوميدية تنتقد النظام وتتهكم على رموزه. ويعد المطرب ذو الميول الإسلامية محمد الأضرعي، ملهب الثورة الأول، فكان سبّاقاً في إعلاء صوته بنقد النظام، والآن بات جمهوره يستمع إليه في العلن وبلا خوف، ولو أن أغانيه التي تعرّي الفساد تحظى بانتشار لافت منذ ما يقارب العامين. وعلى رغم منع السلطات لأعماله، فإن ألبوماته ظلت تباع وتُتداول سراً. أما خلال الأشهر الماضية، فقد صارت أغانيه التي تحض على رحيل الرئيس اليمني، أشبه بلازمة يومية جماعية يرددها آلاف الشبان والشابات في الساحات. ولم يغب الرقص الشعبي، لا سيما الرقصة الأشهر في صنعاء، والمعروفة باسم البرع. فيما غدت الخيم، وجدران المحال المحيطة بساحات الاحتجاج، معارض مفتوحة للتشكيل والكاريكاتور والتصوير الفوتوغرافي. بل ثمة من اتخذ خيمة الاعتصام محترَفاً معه، كما فعل كمال شرف، الذي دأب على رسم لوحات بورتريه للضحايا الذين راحوا يتساقطون في التظاهرات. كما لم يتكل فنانو الثورة اليمنية، محترفين كانوا أو هواة، على الصدفة والعمل المرتجل، بل نظموا معارض ضمت فنون التشكيل والكاريكاتور والتصوير. يحسب لساحات الاحتجاج أنها كسرت الصورة الاجتماعية النمطية لليل أيضاً، فمع نزول الناس إلى الساحات بعد الغروب، تحول المساء إلى فضاء حافل بالغناء والموسيقى والرقص والعروض المسرحية، وهذا إنجاز في ذاته، خصوصاً في صنعاء، التي نادراً ما عرف ليلها الحركة، ناهيك بالأنشطة الفنية. طغيان الهمّ السياسي غير أن الفن المواكب للثورة اليمنية جاء، كما هو متوقع، انعكاساً لواقعه الاجتماعي. فيؤكد الباحث الموسيقي جابر علي أحمد حضور الهمّ السياسي والهدف التعبوي على حساب المطلب الفني والجمالي. ويشير إلى تشابه في موضوعات الأعمال الغنائية والموسيقية التي قدمت في ساحة التغيير، لافتاً إلى شيء من الاستعجال والابتسار في صوغ الألحان، كما أن بعض الأعمال الفنية يكرر ألحاناً معروفة. وعلى رغم أن ذلك ليس عيباً في ظل الأحداث السائدة، وكون «فناني الثورة» ليسوا محترفين بالضرورة ولا يفكرون في الفن لذاته بقدر ما هو وسيلة تعبير عن اللحظة السياسية، بل والمصيرية الراهنة، فإنه يرى أن التساوق الفني مع حدث الثورة لم يخرج من مربع ما هو سائد فنياً أصلاًَ، غامزاً من قناة غياب الإبداع والابتكار، ما يعكس جزءاً من حال في اليمن منذ سنوات. وإذ استبعد جابر وجود تحربة فنية متميزة بعينها، إلا أنه توقع أن تظهر في المستقبل «أعمال فنية تجسد مضامين الثورة وأهدافها»، إنما تصاغ بهدوء ومن دون حميّة الحدث. وطاول الانقسام أيضاً المطربين المقيمين خارج البلاد. وباستثناء المطربة أروى التي أبدت تعاطفاً مع الشبان المحتجين، وأحمد فتحي الذي قدم من القاهرة ليحيي حفلة فنية في «ساحة التغيير» في مدينة الحديدة مسقط رأسه، لزم معظم الفنانين المقيمين خارج الوطن الصمت. وثمة، بين المطربين المقيمين في اليمن مَن أبدى حماسة للثورة ثم تراجع، بدعوى هيمنة الأحزاب على الساحات. في حين ظل بعض الفرق الفنية يؤيد النظام، ثم انضم أخيراً إلى الثورة إنما على خلفية مستحقات مالية لم تصرف له، بحسب مصادر مطلعة. غير أن جابر علي أحمد لا يعتبر انقسام الوسط الفني جوهرياً، فالموقف، حسب قوله، يحتاج إلى «رافعة فكرية وجمالية، وهو ما لم يتوافر عند غالبية الفنانين». ويذكر بأن أحد المطربين (ويرفض تسميته) غنّى للثورة ثم عاد ليغني للرئيس علي عبدالله صالح. وفي الجنوب، شهدت الأشهر الاولى للثورة حضوراً لافتاً للأعمال الفنية المناهضة للنظام، لكنها انحسرت أخيراً لتحلّ محلها أغانٍ تحض على الانفصال. ولم ينجُ الفن من تأثير التباينات التي تشهدها مكونات الثورة. ويلاحظ الصحافي والناشط في «ساحة التغيير» عبد الرزاق العزعزي، أن الأنشطة الفنية «كانت في البداية جيدة، لكنها مع مرور الوقت، أصبحت أكثر إسلامية». ويلفت إلى نماذج شبابية في «الراب» و «الهيب هوب» و «البريك دانس»، مؤكداً أن بين المعتصمين من ما زال يشدو بتلك الأغاني «غير المؤسلمة» التي أطربت كثيرين، بمن فيهم رجال القبائل. وإذ لا يستبعد جابر أن تشدَّد القيود على الفنون إذا وصل الإسلاميون إلى الحكم، فإنه أبدى تفاؤلاً في إمكان حدوث تغيير في فكر هذه الجماعات، مشيراً إلى أن «حزب الإصلاح» الإسلامي موّل أعمالاً فنية استخدمت فيها آلالات الموسيقية، ومعتبراً ذلك خطوة إيجابية في نهج «الإصلاح»، ما لم يكن مجرد براغماتية فرضتها لحظة الثورة. ومعلوم أن الفنون ظلت في الجنوب، كما في الشمال، موجّهة في غالبيتها. ولطالما قوبلت الأعمال التي تنتقد النظام بالقمع والمصادرة. في هذا السياق، تروى حكايات بعضها لا يخلو من الطرافة، فيذكر سعد الكوكباني، عضو الفرقة المعروفة باسم «الثلاثي الكوكباني»، أن الفرقة قدمت في ثمانينات القرن الماضي، أغنية «أنا الشعب يا فندم»، في حفلة حضرها الرئيس صالح. وفي نهاية الحفلة، جاءهم مدير الاستخبارات يسأل عن اسم كاتب كلمات الأغنية، فأجابوه بأنه الشاعر مسعد الشعيبي، فاعتقل الأخير. وبعد سنة في السجن، خرج الشعيبي وقد ازدادت بشرته بياضاً، فسأله أصدقاؤه: أين كنت؟ فأجاب: كنت في لبنان!