عندما تكون السياسة مطعّمة بالأدب والفن ومرصّعة بالثقافة يصبح الوضع مختلفاً جداً. فالغوص في خضم المسارح لقاح ضد التشبث بالكرسي، ومناعة من الطغيان والاستبداد، وصولاً إلى "عالم يمكن أن يكون للشعراء فيه صوت مسموع مثل صوت أصحاب البنوك". عندما تكون البداية من " حفل في حديقة" يصبح النص المسرحي عملاً ثورياً، فيتحول الممثلون إلى أبطال حقيقيين، والحضور إلى متظاهرين محتجين. حينئذ يتجرأ الحاكم في سؤال نفسه "هل تغيرتُ بسبب الرئاسة؟ وهل غيرتني التجارب الهائلة التي عشتها خلال فترة رئاستي التي تزامنت مع اضطرابات عالمية كبرى؟ فيكون الجواب حتماً على غرار ما أفصح عنه فاكلاف هافل،آخر رئيس لتشيكوسلوفاكيا، وأول رئيس لجمهورية تشيكيا، قبل رحيله بزمن طويل، ف"الأمر متروك لنا جميعاً لنحاول، وأولئك الذين يقولون إن الأفراد عاجزون عن تغيير أي شيء إنما هم يبحثون فقط عن الأعذار." يقول هافل" عند محاولة الإجابة عن هذا التساؤل اكتشفتُ شيئاً مذهلاً. فعلى الرغم من أنه من المتوقع أن تكون هذه التجربة الغنية قد أعطتني الكثير من الثقة بالنفس، فإن العكس هو الصحيح. في فترة رئاستي هذه، أصبحت أقل ثقة في نفسي بصورة كبيرة، ومتواضعاً أكثر من ذي قبل. قد لا تصدقون ذلك، ولكن كل يوم يمر كنت أعاني من رهبة الجماهير، كل يوم أصبحُ أكثر تخوفاً ألا أكون أهلاً لعملي، أو أنني سوف أشوِّهُ صورة الرئاسة. كل يوم تصبح كتابة خُطبي أكثر صعوبة، وعندما أكتبها أكون خائفاً جداً من تكرار نفسي، كنت خائفًا من الإخفاق الذريع في تحقيق التوقعات" ويتابع "بينما يبتهج الرؤساء الآخرون في كل فرصة يقابل بعضهم بعضاً أو يظهرون في التلفاز، أو يلقون خطباً... فإن كل هذه الأمور كانت تجعلني أكثر خوفاً من أن أُضِرُّ بالقضية التي أسعى من أجلها. باختصار أصبحت مترددا أكثر وأكثر.. حتى في أموري الشخصية (...)" أي رئيس كان سيتجرأ على ذر هذا الكلام الصريح أمام الملأ كما فعل هافل في سبتمبر من العام 2002 في نيويورك مودعاً السياسة، لو لم يكن المسرح ملهمه الأول والأخير؟ كان هافل رجل يتوقع كل شيء، قائلاً:" أنا نمط من الرجال الذي لا يصدمه كثيراً أن يتم استدعائي للمحاكمة في محكمة ما خارجية، حتى وأنا حاكم لبلدي، أو أن أساق للعمل في مقلع للحجارة. الحقيقة أنني بقدر ما ازددت تواضعاً كانت حالتي تبدو أفضل، لكن حين أرتفع أكثر تكون شكوكي أكبر في أن ثمة خطأ ما في الأمر". ولد الكاتب المسرحي فاتسلاف هافيل في براغ عام 1936. عُرضت مسرحيته الأولى «حفل الحديقة» في العام 1963. منعه القادة الشيوعيون عام 1969 من ممارسة عمله كاتباً ومحرراً بعد قمع إصلاحات ربيع براغ عام 1968، واضطر للعمل في أحد المصانع .قاد حركة سلمية عرفت بالثورة المخملية ضد الحزب الشيوعي، وسجن سنوات عدة. انتخب رئيسا لتشيكوسلوفاكيا في 1989 بعد انهيار النظام الشيوعي، على الرغم من أنه لم يكن سياسياً مخضرماً، بل رجل أدب وفن. وبعد تقسيم تشيكوسلوفاكيا، انتخب رئيساً لجمهورية تشيكيا في 1993، وأعيد انتخابه مرة أخرى في 1998. انتهت مدة رئاسته الثانية والأخيرة في فبراير 2003 ليتقاعد عن العمل السياسي. كتب العديد من المسرحيات والأعمال الأدبية قبل انتخابه رئيسا. كما حصل على تسع شهادات دكتوراه فخرية. يقول مستشاره للشؤون السياسية في الفترة الممتدة بين عام 97 و99 جيري بيهي " كان هافيل يرغب في العودة إلى الكتابة، لكن الثورة حرمته من تحقيق هذه الأمنية بعد أن قذفت به إلى الرئاسة" ويضيف " بوسعنا أن نقسم حياة هافيل العامة إلى ثلاث فترات متميزة: فنان (1956-1969)، معارض (1969-1989)، وسياسي (1989-2003) إلا أنه كان يجمع دوماً بين هذه الأوصاف الثلاثة في أنشطته العامة. فباعتباره كاتباً مسرحياً واعداً في ستينيات القرن العشرين، كان بلا أدنى شك "سياسيا" للغاية وكان أيضاً واحداً من أشد منتقدي الرقابة وغير ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان.وُضِع هافيل على القائمة السوداء وتعرض للاضطهاد لكنه استمر في كتابة مسرحيات مناهضة للاستبداد. وفي عام 1977، أسس هو ومائتان من المعارضين حركة حقوق الإنسان (الميثاق 77)، التي سرعان ما رسخت نفسها باعتبارها قوة معارضة رئيسية. وفي العام التالي، كتب مقالاً بالغ الأهمية تحت عنوان "قوة الضعفاء"، حيث وصف نظام "التطبيع" في تشيكوسلوفاكيا في مرحلة ما بعد عام 1968 باعتباره نظاماً مفلساً على الصعيد الأخلاقي ويقوم على الكذب المستشري. وفي عام 1979 حُكِم عليه بالسجن لمدة خمسة أعوام بسبب الأنشطة التي قام بها في "لجنة المحاكمين ظلما"، وهي اللجنة المنبثقة عن الميثاق 77 والتي قامت بمراقبة ورصد انتهاكات حقوق الإنسان والاضطهاد في تشيكوسلوفاكيا. ثم أطلق سراحه بالقرب من نهاية فترة سجنه بعد إصابته بالتهاب رئوي (والذي كان مصدراً لمشاكل صحية خطيرة عانى منها بقية حياته). وسرعان ما تحولت مقالاته الفلسفية التي كتبها في السجن موجهة إلى زوجته، والتي نشرت تحت عنوان "رسائل إلى أولغا"، إلى قطعة كلاسيكية من الأدب المناهض للاستبداد.وبعد أن تولى رئاسة تشيكوسلوفاكيا، استمر هافيل في الجمع بين صفاته الثلاث كسياسي ومعارض وفنان. وكان يصر على كتابة خطبه بنفسه" رشحته منظمة العفو الدولية ليكون سفيرها الأول للرأي في العام 2003، وبقي يدافع عن حقوق الإنسان في أنحاء العالم إلى آخر أيامه. حاز الرئيس التشيكي السابق جائزة غاندي للسلام الرفيعة لمساهمته حيال السلام العالمي من خلال انتهاجه أساليب الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي. وافته المنية في 18 ديسمبر 2011 بعد صراع طويل مع مرض السرطان عن عمر يناهز الخامسة والسبعين.