قبل وقت طويل من انهيار النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا في عام 1989 كان فاتسلاف هافيل واحداً من الشخصيات الأكثر بروزاً في التاريخ التشيكي؛ فكان كاتباً مسرحياً ناجحاً عندما أصبح الزعيم غير الرسمي لحركة المعارضة. وعلى الرغم من رغبته في العودة إلى الكتابة فإن الثورة حرمته من تحقيق هذه الأمنية بعد أن قذفت به إلى رئاسة تشيكوسلوفاكيا، وبعد انقسام البلاد في عام 1993 انتُخِب رئيساً لجمهورية التشيك الجديدة، وظل في منصبه إلى عام 2003م. كانت حياته السياسية الضاربة بجذورها في مصادفة تاريخية سبباً في تحول هافيل إلى سياسي غير عادي؛ فهو لم يجلب إلى الساحة السياسية في مرحلة ما بعد عام 1989 قدراً ما من انعدام الثقة في الأحزاب السياسية فحسب، بل إنه بوصفه معارضاً سابقاً كان يدرك ضرورة التأكيد على البُعد الأخلاقي للسياسة، وهو الموقف الذي قاده إلى مسار تصادمي مع البرجماتيين والتقنيين في السلطة، الذين شغل ممثلهم الرئيسي فاتسلاف كلاوس منصب رئيس البلاد من بعده. بوسعنا أن نقسم حياة هافيل العامة إلى ثلاث فترات متميزة: فنان (1956-1969)، معارض (1969-1989)، وسياسي (1989-2003)، إلا أنه كان يجمع دوماً بين هذه الأوصاف الثلاثة في أنشطته العامة. فباعتباره كاتباً مسرحياً واعداً في ستينيات القرن العشرين كان بلا أدنى شك «سياسياً» للغاية، بتركيزه على سخافة النظام وعبثيته، وكان أيضاً واحداً من أشد منتقدي الرقابة وغير ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان؛ الأمر الذي جعل منه معارضاً حتى أثناء «ربيع براغ» الليبرالي في عام 1968. ولقد وُضِع هافيل على القائمة السوداء، وتعرض للاضطهاد بعد الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في أغسطس/ آب من ذلك العام، لكنه استمر في كتابة مسرحيات مناهضة للاستبداد. وفي عام 1977 أسس هو ومائتان من المعارضين حركة حقوق الإنسان (الميثاق 77)، التي سرعان ما رسخت نفسها باعتبارها قوة معارضة رئيسية، وكان هافيل واحداً من أول ثلاثة متحدثين باسم الحركة. وفي العام التالي كتب مقالاً بالغ الأهمية تحت عنوان «قوة الضعفاء»؛ حيث وصف نظام «التطبيع» في تشيكوسلوفاكيا في مرحلة ما بعد عام 1968 باعتباره نظاماً مفلساً على الصعيد الأخلاقي، ويقوم على الكذب المستشري. وفي عام 1979 حُكِم عليه بالسجن لمدة خمسة أعوام بسبب الأنشطة التي قام بها في «لجنة المحاكمين ظلماً»، وهي اللجنة المنبثقة من الميثاق 77، التي قامت بمراقبة ورصد انتهاكات حقوق الإنسان والاضطهاد في تشيكوسلوفاكيا، ثم أطلق سراحه بالقرب من نهاية فترة سجنه بعد إصابته بالتهاب رئوي، الذي كان مصدراً لمشاكل صحية خطيرة عانى منها بقية حياته. وسرعان ما تحولت مقالاته الفلسفية التي كتبها في السجن موجهة إلى زوجته، والتي نشرت تحت عنوان «رسائل إلى أولجا»، إلى قطعة كلاسيكية من الأدب المناهض للاستبداد. وبعد أن تولى رئاسة تشيكوسلوفاكيا استمر هافيل في الجمع بين صفاته الثلاث بوصفه سياسياً ومعارضاً وفناناً، وكان يصر على كتابة خطبه بنفسه، وهي الخطب التي حمل العديد منها طابع الأعمال الفلسفية الأدبية، والتي لم يكتف فيها بانتقاد التكنولوجيا غير الإنسانية التي اتسمت بها السياسة الحديثة، ولكنه أيضاً ناشد الشعب التشيكي مراراً وتكراراً الحرص على عدم الوقوع فريسة للنزعة الاستهلاكية والسياسات الحزبية الطائشة. وكان مفهوم هافيل للديمقراطية يستند إلى المجتمع المدني القوي والأخلاق. ولقد ميزه هذا المفهوم عن كلاوس، الشخصية البارزة الأخرى، في التحول الذي شهدته البلاد في فترة ما بعد الشيوعية، والذي دعا إلى فترة انتقالية سريعة مجردة، إذا أمكن، من الوازع الأخلاقي غير المريح والعوائق التي تفرضها سيادة القانون. ثم بلغ الصراع بينهما ذروته في عام 1997 عندما سقطت الحكومة تحت زعامة كلاوس بعد سلسلة من الفضائح. ولقد أطلق هافيل على النظام الاقتصادي الذي خلقته إصلاحات كلاوس في مرحلة ما بعد الشيوعية وصف «رأسمالية المافيا». ورغم أن كلاوس لم يَعُد قط رئيساً للوزراء فإن نهجه «البرجماتي» كانت له اليد العليا في السياسة التشيكية، خاصة بعد رحيل هافيل عن الرئاسة في عام 2003. ولعل الهزيمة الأعظم التي لاقاها هافيل كانت أن أغلب التشيكيين الآن ينظرون إلى بلادهم باعتبارها مكاناً حيث تلعب الأحزاب السياسية دور العملاء للمجموعات الاقتصادية القوية، التي نشأ العديد منها بموجب عملية الخصخصة الفاسدة التي أشرف عليها كلاوس. في الأعوام الأخيرة من رئاسته كان خصوم هافيل السياسيون يسخرون منه باعتباره فيلسوفاً أخلاقياً ساذجاً. ومن ناحية أخرى أبدى العديد من التشيكيين العاديين كراهيتهم له، ليس فقط بسبب ما بدا وكأنه موعظة أخلاقية لا تنتهي، بل أيضاً لأنه ذَكِّرَهم بافتقارهم إلى الشجاعة أثناء حكم النظام الشيوعي. ورغم أنه ظل يتمتع بالاحترام والإعجاب في الخارج، ولو لمجرد استمراره في كفاحه ضد انتهاكات حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، فإن شعبيته في الداخل كانت مهتزة. ولكن الحال تبدلت الآن؛ فنظراً إلى استيائهم المتنامي إزاء الفساد المستشري في النظام السياسي الحالي، وغير ذلك من الإخفاقات، تزايد تقديرهم لأهمية المناشدات الأخلاقية التي تعوَّد هافيل على إطلاقها، بل وبعد وفاته الآن يوشك الناس على الاحتفاء به باعتباره رجلاً تنبأ بالعديد من المشاكل الحالية، ليس في الداخل فحسب؛ فإثناء ولايته رئيساً كان حريصاً على لفت الانتباه إلى قوى التدمير الذاتي المتمثلة في الحضارة الصناعية والرأسمالية العالمية. سوف يتساءل كثيرون: ما الذي يجعل من هافيل رجلاً غير عادي. والإجابة بسيطة: طهارته وأخلاقه؛ فقد كان رجلاً رقيق الجانب، تحكمه مبادئه، وهو لم يكافح الشيوعية بسبب أجندة خفية من نوع ما، ولكن لأنها كانت في نظره ببساطة نظاماً غير لائق وغير أخلاقي. وعندما أيَّد قصف يوغوسلافيا عندما كان رئيساً في عام 1999 أو غزو العراق في عام 2003، فإنه لم يتحدث عن أهداف جيوسياسية أو استراتيجية، بل عن ضرورة منع انتهاكات حقوق الإنسان على يد حكام مستبدين متوحشين. وباستناده إلى هذه المعتقدات في حياته السياسية تحول هافيل إلى سياسي من نوع لم يعد يرى العالم المعاصر مثيلاً له. وربما لهذا السبب، وبينما يواجه العالم - وأوروبا بشكل خاص - فترة من الأزمات العميقة، غاب الوضوح، وغابت اللغة الشجاعة التي من شأنها أن تُحدِث تغييراً حقيقياً. ومن هنا فإن وفاة هافيل، الذي كان من أبرز المؤمنين بالتكامل الأوروبي، تُعَدّ رمزاً بالغ التعبير؛ فقد كان واحداً من آخر أفراد سلالة منقرضة من الساسة القادرين حقاً على قيادة الناس بنجاح في الأوقات غير العادية؛ لأن التزامهم الأول كان للحس السليم والصالح العام، وليس الوصول إلى السلطة. وإذا كان للعالم أن يبحر بسلام عبر الأزمات العديدة التي تحيط به اليوم فإن إرث هافيل لا بد أن يظل حياً في قلوبنا. براغ