ربما اعتُبر مُجرّد ذهاب السلفيين، كتيار طهوريّ يحتكم الى منطق استعادة طهرانيّة «السّلف الصالح»، إلى صناديق الاقتراع، تقدّماً كبيراً، مقارنةً بما كانوا يقومون به من «غزوات» ضد هذه الصناديق. لكن الأمر يتعدّى ذلك: مجرّد ذهاب السلفيين، لكي يطلبوا من الشعب «شرعيّة» لهم لدخول البرلمان، يعني من ضمن ما يعنيه، أنّ «الشرعيّة» التي كانوا يلتمسونها من خارج أسوار الدّولة، أي من الماضي السحيق، أصبحت الآن مدار أخذ وشدّ داخل هذا التيار. لكن مع ذلك، هل يُعتبر هذا تقدّماً في الاتجاه الصحيح؟ أم أنّ الأمر لا يتعدّى كونه تكراراً لمصائب أخرى، أُصيبت بها حركة الإصلاح الديني العربية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين؛ بمعنى، الاستمرار في لعن أو تكفير الثقافة الغربيّة التي أنتجت الصندوق، لكن في الوقت نفسه لا مشكلة في استيراد الصندوق واستخدامه، ما دام لا يمس جوهر السلفيّة وحُمولاتها الإيديولوجيّة. ما بين «ثقافة الصندوق» و «طهرانيّة السلفيّ»، هناك هوّة كبيرة، لا يشفع لحلّها ترشّح السلفيّ لدخول البرلمان، ولا الاتكاء على أكتاف الصندوق. إنّ لكلّ من تلك الثقافة من جهة، والطهرانيّة من جهة أخرى، نظيمة معرفيّة، كلٌّ منهما تحارب الأخرى في الجوهر. وبالتأكيد، الصندوق لن يصنع من السلفيّ «سلفيّاً ديموقراطياً» (هناك بعض الأصوات السلفيّة «المرشحة» الآن، تطالب بفرض الحجاب، وتطبيق الشريعة... الخ). مما لا شك فيه أنّ «استعادة» أصالة ثقافة صندوق الاقتراع ليست ضمن أجندة السلفيين في الرجوع بالتاريخ إلى الوراء. بل بالعكس، «ثقافة الصندوق»، ليست من إنتاج إيديولوجية السلفيّ حتى يطالب الشعب بالرّجوع إليها: ثقافة الصندوق وطهرانيّة السلفيّ ضدّان لا يمكن الجمع والتوفيق بينهما. لكن ماذا يفعل السلفيّ أمام التاريخ، الذي لطالما وقف عقبة أمامه كأبواب موصدة؟ يعيش السلفيّ (بكل ما يعنيه مصطلح السلفية من معنى) تأزماً في الهويّة: فهو لا يشعر ب «كلّيته» في الانتماء الى الحاضر، إلا أنه في الوقت نفسه لا يريد خسارة هويّة الماضي، التي يظن أنها تروي دماء وجوده الآنيّ. وبالتالي، ذهاب السلفيّ إلى صندوق الاقتراع، ليس الهدف منه استعادة هويّة الأمة كما يشيع الإسلاميون، بقدر ما هو حاجة للخروج من أزمة الهويّة أولاً. السلفيّة عموماً في البلاد العربية على رغم استنادها إلى ثقلها التاريخي الطويل، هي ثقافة «نخبة»، ولم تكن أبداً ثقافة شعبية؛ لسبب بسيط، أنّ الشعوب مهما كانت درجة تديّنها، لا تستطيع أن تتحمل قساوة طهرانية السلفيّ، فضلاً عن أنّ السلفية كنظيمة معرفيّة طوباويّة، هي ثقافة تسير بحركة معاكسة للتاريخ: فبينما يسير التاريخ بحركة تقدميّة إلى الأمام، يصرّ السلفيّ ليس فقط على الخروج من هذا التاريخ، بل على القبض عليه وإرجاعه إلى الوراء، إلى اللحظة المقدسة كما هي مرسومة في مخيال السلفيّ، هذه اللحظة التي جسّدها «السلف» أو الأسلاف الصالحون؛ ومن هؤلاء يحاول السلفيّ استمدادَ شرعيته الوجوديّة. على رغم أنّ ذهنية السلفيّ المخيالية تحتكم إلى رواسب هذه النخبوية والطوباوية، إلا أنها أدت به، في الواقع تحت ضغط صدمات الحداثة المتكررة وبخاصة في العقود الأخيرة، الى أن يعيش حياة انعزالية عن المجتمع. وبالتالي، يظهر صندوق الاقتراع الآن أمام السلفيّ ك «خيار تقني» وإجرائي لا أكثر، لا بد منه من أجل الانفكاك عن عزلته من التاريخ. ولا يُنسى في هذا السياق أنّ كثيراً من الحركات السلفية في مصر، وأمام المنظر المهيب لساحة التحرير التي أنهت حكم مبارك، امتنعت عن الخروج للتظاهر بدايةً ضد مبارك، إلا أنهم حينما نزل بعض أقطابهم لاحقاً طالبوا بحكم إسلامي. ومهما تكن بساطة هذا المطلب، فقد شعروا بأنهم مجبرون على التظاهر، وإلا سيُصابون بصدمة أخرى. الناحية الثانية، لا يمكن تخيل أنّ سلفياً يحمل في جعبته إيديولوجية سلفيّة، وهو في الوقت نفسه مؤمن بالثقافة التي أنتجت صندوق الاقتراع. ربما يسمح السلفي باستيراد الصندوق، إلا أن الثقافة التي أنتجت هذا الصندوق ستبقى خارج مطلبه. هكذا، لا يجد السلفيّ أدنى تناقض بين سلوكه السلفيّ الاعتياديّ ومظهره في حياته اليوميّة، وبين الذهاب إلى صندوق الاقتراع. وفوق ذلك، ستبقى ثقافة الصندوق ثقافةً مُحاربة، لأنّها ثقافة غربية (وربما كافرة)؛ وإلا إذا سمح السلفيّ بتغلغل تلك الثقافة داخل كيانه، فستكون إيديولوجيته السلفيّة في خطر. لكن ما دام السلفيّ على طول خطه التاريخي أثبت عدمَ قدرته في تقديم شيء للتاريخ، فلا بأس من استخدام الصندوق، ما دام لا يشكل خطراً على جوهر الأيديولوجيا. هنا، ربما يلتقي «الإخوانيّ» مع شقيقه السلفيّ في هذه النقطة: الصندوق مسموح به، إلا أن الثقافة الديموقراطية «المعلمنة» مرفوضة جملة وتفصيلاً. لكن ما يفترق به «الإخواني» عن السلفيّ، أنّ الأوّل أكثر دهاء سياسياً وحنكة في التعامل مع الصندوق، وفي كيفية استجلاب الناخبين إلى صفّه؛ بعكس السلفيّ الذي يتميز ببساطة في الأيديولوجيا والسلوك وبانعدام الخبرة في السياسة... الخ. لهذا، السلفيّ بحاجة أكثر الى الإخواني، لا العكس. وعلى رغم أنّ الإخوان المسلمين الآن يُصرّون أمام الرّأي العام على «تمييز» أنفسهم عن السلفيين (لكن بعد نجاح الانتفاضة المصريّة قامت تحالفات بين الطرفين)، لا يُستبعد في الأيام المقبلة إذا سارت الأمور بهذا التصاعد للإسلام السياسيّ، أن يغدو الإخوان المسلمون بمثابة «العقل السياسي» المدبّر لأشقائهم السلفيين (وإنْ ضمناً)، مهما يظهر الآن بينهما من تنافس انتخابي؛ فهذا لا يعدو أنّه تنافس بين «الأشقاء» لا أكثر. * كاتب سوري