دفعت المعلمة ريم النهاري حياتها ثمن قرارها إنقاذ طالباتها من حريق مدرسة «براعم الوطن» قبل أقل من شهر في جدة. رحلت ريم في ريعان الشباب، لكنها أعطت درساً كبيراً في تحمل المسؤولية وإنقاذ الأرواح البريئة. لم تكن النهاري الأولى التي دفعت حياتها للموت من أجل الآخرين، إذ سبقها الشاب الباكستاني فرمان الذي مات غرقاً قبل أكثر من عامين في كارثة سيول جدة الأولى بعدما أنقذ 14 شخصاً من الغرق. وبين التطوع المؤدي إلى الموت والتطوع الأقل خطراً والتطوع الآمن تبدو النماذج المتطوعة الشابة كأنها تدخل مغامرة بالأرواح. وخلال كارثتي جدة الأولى والثانية أثبت عشرات الشبان والشابات جديتهم ومثابرتهم في العمل التطوعي، إضافة إلى حادثة حريق المدرسة الأخير الذي اعتبره المراقبون للشأن المحلي السعودي كارثة ثالثة واجهها سكان المدينة الساحلية. لكن ما ينقص تلك التجارب افتقارها للتنظيم والاعتماد على السلوك الفردي، إلى جانب وجود خلل في تدريب المتطوع على أساليب إنقاذ الغريق أو الحريق, وهذه مسؤولية يتحملها المجتمع بمؤسساته كافة، المدنية منها والحكومية، والتي تقتصر فيها عمليات تنظيم وتنسيق فرق التطوع على فترة الحدث، ولا تتبع ذلك دورات أو برامج لإنتاج عمل تطوعي متكامل ومدرب ومجهز لأي طارئ. المراقب المحلي لكوارث جدة التي عصفت بها عاماً بعد آخر منذ 2009، يلاحظ أن هؤلاء الشبان الذين يفتقرون للحد الأدنى من المعلومات حول عمليات الإنقاذ يشكلون خط الدفاع الأول لمواجهة تلك الكوارث. البعض منهم ينجح في عمله والحفاظ على نفسه، وآخرون يدفعون ثمناً باهظاً إما بتعرضهم للإصابة وإما للموت كما في حالتي النهاري وفرمان. وفي حادثتي غرق جدة بالسيول انتشر عشرات الشبان على الطرقات لسحب العائلات والنساء والأطفال من جرف السيول، منهم من استخدم الوسائل البدائية في عمليات الإنقاذ ومنهم خدمتهم تقنية سيارات الدفع الرباعي التي كانوا يمتلكونها في سحب السيارات العالقة وسط مجاري السيول التي حولت شوارع عروس البحر الأحمر إلى أنهار جارفة. وسائل انقاذ مرتجلة وفي حريق جدة الأخير، استخدم المتطوعون الذين كانوا بالقرب من المدرسة وسائل أكثر بدائية في عمليات الإنقاذ. فمنهم من فرد قطع القماش التي توافرت من المحال القريبة وآخرون استخدموا السجاد الذي يحتفظون به داخل سياراتهم كوسائل إنقاذ لتلقي الطالبات والمعلمات اللاتي رمين بأنفسهن من الطبقة الثالثة للمدرسة خوفاً من النيران. تلك المحاولات البدائية أنقذت حياة عدد كبير ممن كانوا في وسط المدرسة المنكوبة، لكنها في الوقت ذاته كانت غير مكتملة النجاح، إذ وقعت إصابات وكسور كثيرة بين الناجين. الغريب أن مدينة كجدة، أصيبت أكثر من مرة في أبنائها وبنيتها، تفتقد حتى الآن التدريب اللازم لمواجهة هذه الحالات، كما لا يظهر نشوء نشاط تطوعي أكثر احترافية، كتكوين فرق تطوعية مدربة، وموزعة في شكل علمي. وضع العمل التطوعي في جدة، على رغم أهمية ما قام به المتطوعون خلال الحوادث الثلاثة، أثبت أنه خط الدفاع الأول لمواجه الأزمات، لكنه أشبه بتلك البندقية المحرومة من «نيشان». وعلى طريقة «إن خليت خربت»، أدركت بعض مؤسسات المجتمع المدني ضرورة وجود عمل تطوعي منظم ومتطوع مدرب، فقررت «جمعية البر» في جدة قبل ما يربو عن خمسة أشهر تشكيل فريق تطوعي يعمل خلال الأزمات التي تجتاح المدينة بين الحين والآخر. لكن هذا الفريق يبقى في حاجة لفرق أخرى مساندة وداعمة له ليتحقق الهدف المنشود من الأعمال التطوعية، بعيداً من الصفة الفردية حتى لا يكون سلاحاً قاتلاً لأبطالها سواء في الحريق أم الغريق.