يعيش اليهود في داخل الدولة العبرية وفي الخارج نقاشاً حامياً منذ فترة حول تعريف أو تحديد من هو اليهودي؟. وفي الوقت الذي يشدد فيه يهود الداخل، خاصة المتدينين منهم على البعد الديني لهذا التعريف، في الانتماء والسلوك، يرى يهود الخارج، خصوصاً في الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث الجالية الأكبر في العالم، أن اليهودية انتماء إلي الدين والى التاريخ والى الحضارة دون أن تكون ممارسة بالضرورة لتعاليم التوراة والتلمود أو لممارسة الطقوس اليهودية المختلفة. مثل هذا النقاش هو جزء من النقاش الأوسع حول ماهية دولة "إسرائيل" وعلاقتها بالحلم اليهودي الأصلي. أي هل أن "إسرائيل" هي دولة يهودية أم أنها دولة اليهود في العالم؟. والفرق بين المفهومين يتلخص بالنسبة إلي الأول في نهاية هذا الحلم لان الدولة الموعودة أصبحت دولة نهائية لليهود الذين يعيشون على أرضها. أي ما يناقض فكرة التوسع الدائم لاستيعاب المزيد من المهاجرين التي يفترضها المفهوم الثاني (دولة اليهود في العالم). أما الخلاف على الجواب حول ماهية هذه الدولة وعلاقتها بالحلم اليهودي الأصلي وبالمشروع الصهيوني فيعكس التصورات المختلفة حول مستقبل ""إسرائيل"" بين الاتجاهات السياسية الدينية والعلمانية فيها. وإذا كنا نتابع عملية التسوية في المنطقة، نلاحظ أن الاتجاهات الدينية (تحالف الليكود مع الأحزاب الدينية المختلفة) هي التي ترفض تقديم أي تنازل في هذه العملية، بينما عبّرت الأحزاب العلمانية بقيادة حزب العمل عن استعدادها ولو المشروط لمثل هذه التنازلات. هذا الاختلاف العميق حول تحديد هوية اليهودي، وحول الاتفاق على مستقبل دولة "إسرائيل" ليس نتاجاً لعملية التسوية فقط كما قد يظن البعض. بل هو نتاج للتناقضات التي حملتها دولة "إسرائيل" في داخلها منذ تأسيسها على مستوى الانشطار بين الديني وبين العلماني. وقد عبر النظام التعليمي والمدارس المختلفة عن هذه التناقضات. كما عبرت البرامج التعليمية نفسها عن ذلك. إلا أن هذا الواقع لا يجب أن يحجب عنا الدور الهام الذي لعبته المدارس المختلفة في ترسيخ الولاء للدولة وحمايتها والدفاع عنها كما سنحاول أن نبين لاحقاً: التربية في إسرائيل إلي أين ؟ ..إذن ثمة ميزتان للتربية في "إسرائيل": الأولى: انقسامها بين الديني وبين العلماني. الثانية: توحدها حول مفاهيم الولاء للدولة وبناء القوة. أي ما يمكن ان نسميه ركائز المشروع التربوي الصهيوني. اولاً: في الانقسام بين الديني والعلماني تم تأسيس دولة "إسرائيل" وفقاً لمنظور علماني يستهدف الإحياء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للشعب اليهودي وفقاً للمؤسسين الأوائل للمشروع الصهيوني (هرتزل، بن غوريون...). إلا أن هذا المفهوم تعارض مع مفهوم الأوساط الدينية التي كانت ترغب منذ نهاية القرن التاسع عشر في أن تخلق في ارض "إسرائيل" مجتمعاً يهودياً يمارس تعاليم التوراة. والخلاف حول هذين المفهومين المتناقضين يشكل أحد التوترات الأساسية في المجتمع "الإسرائيلي". واحد الأسس التي تفصّل بين التيارات السياسية والدينية في موضوع التعليم وموضوع المدارس. وقد خاض جهاز الحاخامية والأحزاب الدينية معه، منذ تأسيس دولة "إسرائيل" معركة ثابتة لتقوية هيمنة الشريعة الدينية على مجمل سكان "إسرائيل" اليهود وعملوا على مدّ التأثير الديني على الحياة اليومية للمجتمع "الإسرائيلي". ولم تكن المدرسة واهداف التعليم خارج هذا الصراع الديني العلماني. حتى أصبحت المدرسة في "إسرائيل" كما تصفها إحدى الباحثات اليهوديات، تعكس صراعات المجتمع، وتعمل على تشكيل المواطنين الذين سيتابعون هذه الصراعات . وللتربية والمدرسة أهمية استثنائية في "إسرائيل" منذ تأسيسها. ليس فقط لان الشعوب كافة تهتم بالتربية وبالتعليم على مرّ التاريخ. وليس فقط لان التربية من الميادين الأساسية لاعداد الفرد في كل المجتمعات. بل إلي ذلك كله لان "إسرائيل" مجتمع هجرة. أي أن سكان "إسرائيل" بغالبيتهم العظمى أتوا من بلدان مختلفة يحملون معهم عادات وثقافات متفاوتة كما يختلف مفهوم اليهودية عندهم من جماعة لأخرى، من المتدين إلى الملحد ومن الشرقي إلى الغربي.. ما يجمع هؤلاء المهاجرين هو انتمائهم الديني. لهذا السبب تعتبر المدرسة في "إسرائيل" المكان الأول الذي ينبغي أن تبنى فيه وحدة الأمة. يليه الحي والأهل. لذا يجب ألا يقتصر دور المدرسة على نقل المعارف فقط، بل يجب أن تكون في مقدمة من ينقل قيم المجتمع الجديد. وقد كان التعليم التقليدي اليهودي قبل القرن التاسع في فلسطين يشبه التعليم عند المسلمين والمسيحيين (أي الكتّاب) إذ كان تعليم الأولاد في ذلك الوقت محصوراً بالتوراة والتلمود وتفسيرهما ولم يكن منظماً كما نعرفه اليوم. وكان المتفوقون من الطلاب ينتقلون إلى متابعة الدراسة الدينية وفقاً لمستوى اكثر تقدماً. أما بدايات التعليم اليهودي الحديث فكان في منتصف القرن التاسع عشر مترافقاً مع عصر الأنوار في أوروبا والتأثيرات التي أحدثها هذا العصر في الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية. ما دفع اليهود الغربيين إلى التفكير في رفع مستوى المدارس اليهودية في فلسطين من خلال تقليد النموذج الأوروبي. وبدأت منذ ذلك الوقت تتوافد البعثات التعليمية المختلفة إلى فلسطين لتأسيس المدارس الحديثة (في الفترة نفسها التي وصلت فيها هذه البعثات إلى لبنان والبلاد العربية والإسلامية الأخرى). حيث لغة التعليم الفرنسية أو الإنكليزية او النمساوية وفقاً لطبيعة البعثة القادمة. وكان من الطبيعي، ومنذ ذلك الوقت أن يبتعد اليهود المتشددون عن هذه المدارس أعلنوا تكفير من يرسل أولاده إليها (وافتتحوا الحضانات منذ عام 1898 في مواجهتها). وعلى الرغم من البرامج التعليمية التي كانت تشبه برامج التعليم في المدارس الأوروبية إلا أن تدريس التوراة والتلمود والتاريخ اليهودي كان أساسيا في تلك البرامج في الوقت نفسه . وقد ترك هذا الصراع حول طبيعة التعليم بين الديني والعلماني أثره على بنية التعليم في "إسرائيل" منذ نشوئها حتى يومنا الحاضر. فقد عملت الاتجاهات المختلفة (الدينية وغير الدينية) على تأسيس المدارس في كل الأحياء التي وصل إليها المهاجرون منذ تأسيس الدولة. وقد اضطرت الحكومة في وقت لاحق إلى تشريع هذا النوع من المدارس وفقاً لنظام "المدارس الحكومية"، و"المدارس الحكومية الدينية". حيث يتم في الثانية، كما هو مفترض، التركيز على التعليم الديني وعلى ممارسة الشعائر اليهودية، خلافاً للنوع الأول، الذي يدرس التوراة كمصدر للأدب وللتاريخ القومي وللقيم الأخلاقية العالمية... كما أن الأولاد في المدارس الدينية يتعلمون أصول اليهودية ويتعلمون في نهاية هذه المرحلة لغة ثانية (الإنكليزية أو الفرنسية) بالإضافة إلى الأنشطة الزراعية والمهنية واليدوية المختلفة. أما في المرحلة الثانوية فإلى تعليم العبرية والتوراة والتلمود يتلقى الطلاب تدريباً عسكرياً ويتابعون تعليم اللغة الثانية. والاختلاف بين المدرسة الدينية والمدرسة العلمانية يتركز على حجم الاهتمام بالتعليم الديني وعلى ممارسة الشعائر التي تشدد عليه المدرسة الدينية. إلى هذا الانقسام بين الديني والعلماني حول محتوى التربية وحول الالتزام بتطبيق الشعائر الدينية وحول المفاهيم المتعلقة بهوية الدولة، ثمة خلاف آخر بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين (بين الاشكناز والسفارديم) مصدره التفاوت بين الجماعتين في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. وعلى الرغم من المحاولات "الإسرائيلية" الرسمية لتقليص الفوارق بين هاتين الجماعتين الكبيرتين اللتين تشكلان مجموع الشعب اليهودي في "إسرائيل" ، فان التفاوت لا يزال مستمراً، نظراً للأسباب التاريخية التي ساهمت في وجوده وفي استمراره لاحقاً. فقد كانت الهجرات الأولى إلى فلسطين مكونة أساسا من اليهود "الاشكناز". وهي هجرات عارضها اليهود المتشددون (السفارديم) في فلسطين بسبب علمانية هؤلاء القادمين من أوروبا. والاشكناز كلمة عبرية تعني ألماني، للدلالة على يهود أوروبا، أو للدلالة على ما تعرضه اليهود من مذابح واضطهاد في ألمانيا نفسها. أما كلمة سفارديم فتعني بالعبرية أسبانيا. وتستخدم للدلالة على اليهود المتحدرين من اليهود الذين طردوا من أسبانيا ومن البرتغال في نهاية القرن الخامس عشر. وتبرز الفرو قات بين هذين الفريقين في التعليم وفي المواقع الاجتماعية والسياسية والعسكرية. فقد بلغت نسبة الاشكناز على سبيل المثال في بعض المراحل في جامعة بار ايلان 90 % من مجموع الطلاب. كما كانت نسبة الالتحاق المدرسي بين ذوي الأصول الأفريقية والآسيوية اقل من أولئك القادمين من أوروبا. وقد نما شعور حاد بالتمييز بين الفريقين. حتى أن السبعينات شهدت مطالبة الشرقيين بتحسين أوضاعهم التعليمية، وبتمثيلهم السياسي، وبأحياء ثقافتهم. بينما كان المتحدرون من اصل أوروبي يعتبرون أنفسهم اكثر ثقافة، واكثر تفوقاً ويعيبون على الآخرين شبههم بالعرب وفقدانهم لأي قدرة على النهوض الثقافي. لكن عدم الاندماج بين الفريقين في المجتمع تراجع نسبياً في السنوات اللاحقة (22 % زيجات مختلطة). خصوصاً بعدما وضع مثقفون من السفارديم، برامج بحثية هامة ترفع من قدر مساهمة الثقافات السفاردية والشرقية في الثقافة اليهودية. وقد تمّت الاستفادة من هذه الجهود في التعليم "الإسرائيلي". وقد اضطرت الحكومة "الإسرائيلية" منذ تأسيس الدولة إلى تجنّب هذا الصراع بين العلمانيين والمتدينتين في الموضوع التربوي التعليمي. كما اضطر الكنيست عام 1950 إلى التصويت إلى إلغاء القرار الذي يسمح للأهالي بإرسال أولادهم إلى المدارس التي تتفق واتجاهاتهم الأيديولوجية في معسكرات المهاجرين. وقد أدى تفاقم هذا الصراع حول الموضوع التربوي إلى استقالة الحكومة عام 1951، والى حل أول كنيست منتخب عام 1949. فكانت تلك أول أزمة سياسية حادة في "إسرائيل" (الدولة الجديدة) ناجمة عن التوتر الديني - الثقافي. وكانت هذه الأزمة هي التي دعت الكنيست الثاني عام 1953 إلى التصويت على قانون جديد يمنع تعدد التيارات المدرسية ويسمح بثنائية واضحة هي "المدارس الحكومية" والمدارس "الحكومية الدينية" التي أشرنا إليها. كما يمكن أن نشير أيضا، ودون الدخول في التفاصيل إلى المراحل التعليمية في "إسرائيل" التي تشبه ما يجري في بلدان العالم الأخرى. لكن التعليم في "إسرائيل" يعطي أهمية خاصة للتدريب وللتأهيل المهني والتكنولوجي ولانتاج نخبة من العلماء والباحثين، ولتطوير المواهب الفردية . ثانياً: مرتكزات المشروع التربوي الصهيوني ركّزت التربية الصهيوني على ثلاثة عناصر تهدف كلها إلى خدمة المشروع الصهيوني في تأسيس الدولة العبرية وفي جمع الشتات اليهودي في هذه الدولة. وهذه العناصر هي: إحياء اللغة العبرية - تعزيز الارتباط بالأرض - تنمية الروح العسكرية والعنصرية. 1- لم تكن اليهودية هي اللغة المتداولة بين يهود العالم. حتى ليقال بان هرتزل نفسه اضطر إلى تعلم الكلمات العبرية الخاصة بالصلاة عندما أراد تأدية الصلاة في مدينة بازل السويسرية قبيل افتتاح المؤتمر الصهيوني الأول. لقد تكلم اليهود لغة البلدان التي عاشوا فيها، في البلدان العربية وفي آسيا وفي أوروبا والولاياتالمتحدة. وبما أن اللغة من أهم عوامل التوحد القومي، كان إحياء اللغة العبرية التي باتت خارج الاستعمال اليومي منذ مئات السنين، جزءاً أساسيا من المشروع الصهيوني ليس فقط في فلسطين عبر المدارس والحضانات ودور التعليم والمؤسسات الأخرى المختلفة. وانما في الدعوات إلى إحياء تلك اللغة وتحديثها في كتابات ومؤلفات اليهود في كثير من بلدان العالم. 2- أما الارتباط بالأرض. فلا يمكن الدعوة إلى تحقيق المشروع القومي لليهود في فلسطين دون تنمية الارتباط النفسي والعاطفي بالأرض والتعليق بها. هكذا عملت الأدبيات اليهودية على تأكيد الحق التاريخي في ارض فلسطين.وعلى ضرورة التشبث بهذه الأرض والدفاع عنها (ارض الميعاد) وعلى استخراج النصوص المقدسة من التوراة التي تدعم هذا الارتباط وجذوره الدينية والتاريخية. وقد جاء في بعض هذه النصوص: "خلق آدم من تراب ارض "إسرائيل""، وفي نص آخر: "يتساءل الربانيون عما تراه تكون مساحة الأرض التي اضطجع عليها يعقوب، فيقول الرابي اسحق بان الواحد القدوس، تبارك اسمه، لفلف ارض كنعان كلها وصرّها ثم وضعها أمام أبينا يعقوب لكي يريه سهولة الاستيلاء عليها بواسطة المتحدرين من نسله". وكذلك فعلت الكتابات الصهيونية قبل إنشاء الدولة في فلسطين. ومن الضروري الإشارة إلى الاهتمام الخاص الذي شددت عليه الحركة الصهيونية والنظام التعليمي لاحقاً بالزراعة حتى أن برنامجاً للتعليم الزراعي بات جزءاً من البرنامج التعليمي للطلاب في المراحل الدراسية كافة وهو محاولة واضحة لتربية جيل كامل على التعلق الفعلي الأرض بالإضافة إلى التعلّق الديني والأيديولوجي والاستيطاني بها. ناهيك طبعاً عن الأبعاد الاقتصادية المباشرة لمثل هذا التعلم وللنشاطات الزراعية المتعلقة به. 3- أما النزعة العسكرية فترتكز على: - إحياء مشاعر الخوف عند اليهود من الآخر (جيش الدفاع "الإسرائيلي"...). - تبرير القضاء على الخصم للمحافظة على الذات. - إحياء الذكرى المتمثلة باضطهاد اليهود (المحرقة...). ومصادر هذه النزعة ليس الكتابات التاريخية أو السياسية التي قدمها القادة العسكريون، أو المفكرون أو السياسيون في "إسرائيل" وخارجها. بل نصوص من التوراة أيضا تمجد الشعب المختار، كما هو معروف، الذي يستحق الحياة الأبدية.. و"أن اليهود احبّ إلى الله من الملائكة..." أو "هوذا شعب "إسرائيل" يقوم كلبوة ، ويرتفع كأسد، لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى". ولا يرى بن غوريون على سبيل المثال في تاريخ "إسرائيل" القديم إلا ما يرويه الكتاب المقدس. الذي هو بالدرجة الأولى تاريخ "إسرائيل" العسكري. كما يمكن أن نضيف إلى هذه الأيديولوجية العسكرية الكثير من الكتابات الأدبية التي تدعو إلى مثل ذلك. ناهيك عما هو معروف من الاهتمام المتقدم بالتدريب العسكري لجميع أفراد المجتمع "الإسرائيلي" رجالاً ونساءً. إلى هذه المرتكزات الثلاثة للتربية اليهودية الصهيونية تقوم الكتب المدرسية والقصص وسواها من مصادر المعرفة الموجهة إلى الطلاب بشكل خاص بتقديم صورتين مختلفتين ومتناقضتين عن الذات ("إسرائيل" والشعب اليهودي) وعن الآخر (العربي والعدو). بحيث تبدو الصورة الأولى مشرقة من جهة، ومهددة من جهة أخرى، تفرض على أصحابها اللجوء إلى هذه المرتكزات الثلاثة التي أشرنا إليها (خصوصاً البعد العسكري)، بينما تبدو الصورة الثانية قاتمة وقائمة على العدوان والتهديد. ومن يراجع كتب الأطفال العبرية يجد الكثير من هذه الصور التي أشرنا إليها.