انتهت جلسات الحوار الوطني المنقولة على شاشة القناة الثقافية، وبي شغف لا يدانيه شغف في قدح شرارة جدل ساخن حول قضية وطنية تقبع ولا تزال في دهاليز الوطن المغيّبة، بما لا يتماشى وحال السكون الذهني والتسامح والصفاء المطلقين في طرح القضايا والأفكار الكبيرة. وصفت جلسات هذا العام بأنها كانت - على مدى يومين - أكثر سخونة وقوة، متناولة قضايا الفساد والبطالة والفقر والسكن والصحة والتعليم وحقوق المواطن وحرية الرأي، وأدرك المدعوّون إلى هذه الطاولة المستطيلة أن لا وقت لتنضيد البلاغات الكلامية والفضفضة المجانية، وانتهت الجلسات وقد غشيتني مجموعة أسئلة كانت ترتاد رأسي بين الفينة والأخرى. كان السؤال الأكبر الماثل أمامي مفاده، منذ متى ونحن نسمع عن الحوار الوطني؟ أذكر؛ في بدايات تدشين هذا المشروع الحلم أن كانت الأحاديث منصبة على الحوار، وما هو الحوار، وكيف يكون الحوار، ومن نحاور؟ إلى آخره، حتى أصبحت كلمة الحوار مضغة تسقط على حُوار الإبل تندراً، ثم السؤال الآخر: وماذا بعد؟ انتهت الجلسات وبين يدي صفحات الشبكة العنكبوتية، ولكي أطرد كل هذه الأسئلة الشائكة التي زاحمتني في وقت كان يقايضني على إنهاء واجبات يومية كثيرة، أخذت بما يشبه العصف الذهني أتجول بين المواقع ومعيني وساعدي اليمن السيد «غوغل» باحثاً عن كل الروابط ذات الصلة بالحوار الوطني. نثر السيد «غوغل» أمامي مجموعة من الروابط كل صفحة تبرد أنصال الأسئلة، وفي دخيلة نفسي آمل في حوار يقبل الحوار الآخر، جاء الرابط الأول بعنوان «اختتام مؤتمر الحوار الوطني في السعودية، ومحللون يتحدثون عن فشله»، ولكن مع الأسف، كان محجوباً بالصفحة البغيضة، هنا أخذتني حميتي الحوارية في أن أبحث عما كتب تحت هذا الرابط، فلم أعثر على رديف أو دليل يهديني لمحتواها، المهم أنني واصلت وقد تطايرت الأسنة من رأسي، وبحثت لأجد تقريراً في صحيفة «الوطن» اختصر المشهد كاملاً، اتشح بلغة متشنجة، خرجت عن سياسة الحوار. كان الأمين العام للحوار الوطني ينتقد كتّاب الصحف على خلفيات سابقة، ثم يعد بأن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني سيواصل عقد اللقاءات الوطنية والثقافية الخاصة بالإصلاح والتطوير في المجتمع السعودي، وهنا - ومن باب الحوار - يحق لي بأن أتساءل: هل مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني مخول بعملية الإصلاح والتطوير؟ ثم أسأل: إذا كان هذا صحيحاً فهل سيتحمل مستقبلاً تبعات أي فساد سيظهر في البر والبحر؟ أخشى أن يحمل المركز عبئاً يفوق الأهداف التي وضع من أجل تحقيقها، وهو فتح محاور جدالية بين السعوديين لا تزال في طور التشكّل ولم تبلغه، إذ إن الحوارات الدائرة في أروقة المركز لا تزال مشعثة، ولم تصل إلى مسارات محددة مع إسهامها في تشخيص الحالات التي باتت متداولة بين القاصي والداني. ثم عجبت لحد الضحك لجواب الأمين - أضحك الله سنه - عندما برر عدم نقل الجلسات حياً على الهواء، قائلاً: حتى لا تكون هناك رسمية في المداخلات، ويكون ذلك معيقاً لطرح الأفكار والرؤى، هنا وضع المنتدبون من نخبة المثقفين في خانة ضيقة جداً بما أوحى لي بصفوف التعليم الدنيا، وبأولئك الطلاب الذين لا يستطيعون الإجابة أو طرح الأسئلة على ملأ من الناس، ولسان حاله يقول: (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)! ثم وهو يطالب الجميع بالتفاؤل ضارباً المثل بنفسه من أنه عندما يخرج إلى مكتبه بوزارة التربية صباح كل يوم متفائلاً تنحل كثير من العقبات التي تواجهه، والعكس صحيح، ولعلها دعوة منه لحل كل أزمات الوطن والمواطن، وأقول - وهذا سؤال حواري أيضاً -: إذا لم تنحل مشكلات الوزراء ووكلائهم الذين يندرج تحتهم جيش من العاملين ولو من دون تفاؤل فمتى تنحل؟ سأنحي قليلاً هذه الصفحة «النتية» وأجرب الرابط الخاص بالحوار الوطني؛ هنا عثرت على مجموعة مقالات وأخبار وتقرير، كشفت عن عمق مشكلة الحوار لدينا، من أهمها عدم الاعتراف بتجاوز عقول الشباب لكثير من المفاهيم المطروحة. نائب الأمين العام لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، في لقاء المبتعثين، قدّم محاضرة بعنوان: «دور المبتعث في تعزيز الحوار الحضاري»، تناول فيها مفهوم الحوار الحضاري والحوار الفعّال، ودور المبتعثين في تعزيز الحوار مع الآخر. وقال في محاضرته: إن الابتعاث يمثل حواراً بين الثقافات، وأنه فرصة جيدة للمبتعثين للتعريف بموقع المملكة العربية السعودية وثقلها الاقتصادي والسياسي والديني، وتصحيح الكثير من الصور المغلوطة عن المملكة، وكلام كثير حول الهوية والدين، وكأن هذا الكلام مجتز من أوراق صفراء باهتة، أكل عليها الزمن وشرب، ونسي الرجل أن الشباب جربوا كثيراً من البرامج العملية وخضعوا لتجارب كثيرة، ويتلقون في اللحظة سيلاً من المعلومات بعيداً من الحقن الكلامي، أما يحيى الأمير الذي يتكرر حضوره دائماً في أعراس الوطن، فيقول حفظه الله بتناقض فج: «في التجربة السعودية، كان مجرد قيام دولة حديثة عبارة عن مشروع إصلاحي ضخم، تلك الدولة لا بد أن تدخل في مسار من التحولات والالتزامات التي ترسخ هوية الدولة وفكرتها وقيمها وتحافظ على مكانتها وسط محيطها العالمي الذي تتفاعل معه، وكل الكيانات التي أرادت أن تقدم نموذجاً لدولة أيديولوجية إما أنها سقطت، كما هي الحال في الاتحاد السوفياتي، أو أنها تعيش صراعاً وحرباً مستعرة مع العالم، كما في التجربة الإيرانية الآن. أدارت السعودية معادلة الإصلاح باقتدار واضح، والتاريخ السعودي يؤكد أن كثيراً من الإصلاحات والخطوات الإصلاحية إنما بدأت وانطلقت من الدولة، وفي الوقت ذاته وجدت معارضة اجتماعية». هذا المجتزأ من مقالة طويلة وضعت على موقع الحوار، يتضمن مغالطتين: الأولى تاريخية، والثانية فلسفية، وتتمثل الأولى في محاولة إسقاط ظروف وإرهاصات تشكل الدول على قيام المملكة وتشكلها المغالطة الثانية التي تحاول تبرير إشكالية التباطؤ في عملية التغيير ونسبة أي تغيير متى حدث إلى رأس الهرم، الذي على حد قوله يجابه بمعارضة شعبية! هذا الكلام من رجل اختير ليمثل المجتمع في حوار هدفه التغيير إلى الأفضل؛ وقالته تدين وجوده داخل أروقة الحوار مادام التغيير يأتي من قمة الهرم فقط، لأن الحاجة إليه منتفية أصلاً في هذا الجدل الذي حرضت عليه أحداث عصفت بمجتمعنا أهمها الإرهاب. بقي التنويه إلى أن الأنظمة التي تشكلت حديثاً تنهض على أيديولوجيا خادمة، من ورائها أدوات تسمى في لعبة الشطرنج «بيادق»، تؤدي أدوراً بسيطة، وتسقط وفق حركة اللاعب أو الخصم. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] Twitter | @almoziani