باغتت الحشود الجماهيرية المليونية التي زحفت إلى صناديق الاقتراع في أولى مراحل الانتخابات البرلمانية المصرية معظم المراقبين والمتابعين للمشهد السياسي المصري الذين توقعوا فشل تلك الانتخابات في ظل حال الفوضى والانفلات الأمني والانقسام السياسي التي طغت على ذلك المشهد خلال الأسبوع الأخير الذي سبق تلك الانتخابات التي أكدت من جديد أن وعي الناس تجاوز وعي نخبتهم بمراحل، بما يضع تلك النخبة في مأزق، لا سيما أن الرهان بات معقوداً على إرادة الغالبية كوسيلة وحيدة لإنهاء حال الانقسام الناجمة عن الاستقطاب بين قوى النخبة وتياراتها طوال الفترة الانتقالية. وهو ما يعني أن احتمال إنهاء هذا الانقسام بات رهناً بقدرة المجلس العسكري وقدرة النخبة السياسية بجناحيها الثوري والتقليدي، كذلك على تجاوز الأخطاء التي ارتكبت من قبلهم خلال الأشهر العشرة الماضية، وكانت سبباً في إحداث تلك الحال من الانقسام، خصوصاً أن الاستفتاء على الدستور في آذار (مارس) الماضي شهد إقبالاً غير مسبوق. وعلى رغم هذا، تحول الاستفتاء في ما بعد إلى مسبب أساسي لهذا الانقسام السياسي والاجتماعي الذي شهدته مصر، ومن ثم فإن هناك ثلاثة مطالب أساسية كي تكون تلك الانتخابات أولى خطوات إنهاء هذا الانقسام. المطلب الأول هو ضرورة تذويب التناقض ما بين الاعتراف بالجماهير كمصدر وحيد للشرعية بعد ثورة كانون الثاني (يناير) وبين استخدام الغالبية كسيف مصلت على رقبة الأقلية، فهذا التناقض كان سبباً في حدوث الأزمة التي تعاني منها مصر، لأن المجلس العسكري كان موزعاً طيلة الفترة الانتقالية ما بين منطق تقليدي حكم عملية تنازل مبارك عن السلطة للجيش باعتباره معقداً للسلطة والسيادة منذ ثورة يوليو ومنطق ثوري حكم لحظة استلامه للسلطة بناء على شرعية جديدة لثورة ديموقراطية تتناقض في أهدافها ومطالبها مع ثورة يوليو، وهو ما أدَّى إلى حال من القطيعة بين الجيش والجماهير الثورية ترتبت على فشله في تحقيق مطالبها على رغم كونها المصدر الوحيد لشرعية وجوده في السلطة، وهو فشل تواكب مع توظيف الجيش للغالبية التي تحققت خلال استفتاء الدستور، وكذلك لسلاح المليونيات والتي كانت آخرها مليونية العباسية لإرسال رسالة إلى ثوار التحرير مفادها أن الغالبية الصامتة تؤيد وتدعم نهج المجلس العسكري في إدارة الفترة الانتقالية، ومن ثم فإن استمرار المجلس العسكري في اللعب على هذا التناقض الممنهج والمصنوع بين إرادة جماهير الثورة وإرادة الغالبية الصامتة سيؤدي إلى أن تكون تلك الانتخابات بمثابة سيف جديد يصلت على رقاب الثوار الذين دعوا إلى تأجيلها ومقاطعتها بما يمكن أن يفتح الباب إلى مزيد من الانقسام الاجتماعي والسياسي. وهو ما يقودنا إلى المطلب الثاني والمتمثل بضرورة اندماج العناصر الثورية في العملية السياسية وتخليها عن نهج الثورة الدائمة من خلال تشكيلها أحزاباً ذات قاعدة اجتماعية عريضة استعداداً لخوض الانتخابات المقبلة بدلاً من التعاطي مع مليونيات التحرير بوصفها الوسيلة الوحيدة للتعبير عن الذات، بخاصة أن التجربة التاريخية قد أثبتت استحالة الجمع بين نهج الثورة الدائمة والتوجه صوب بناء الدولة ومؤسساتها داخل حال ثورية واحدة، وهو ما حدث خلال الثورة البلشفية على سبيل المثال والتي انقسم فيها الثوار بعد وفاة زعيمها لينين إلى فريقين متصارعين: فريق سعى إلى بناء الدولة بقيادة ستالين وفريق تبنى نهج الثورة الدائمة قادة تروتسكى وهو الصراع الذي انتهى كما هو معروف بإقصاء تروتسكى ونفيه بل واغتياله في ما بعد ومن ثم حسم الصراع لمصلحة نهج بناء الدولة، فعلى رغم الاختلافات الكبرى بين طبيعة الثورة المصرية ومطالبها مقارنة بالثورة الروسية، وكذلك حجم الصراع بين الأجنحة المتبنية لكلا المنطقين داخلها والذي لا يمكن أن ينتهي بالنهاية الدموية ذاتها، إلا أن التناقض بين كلا المنطقين قائم، كما أن عدم اندماج الثوار في العملية السياسية ستكون نتيجته أيضاً خروجهم من المشهد السياسي في شكل كلي ونهائي. أما المطلب الثالث فهو ضرورة الاتفاق في شكل واضح ومعلن على معايير اختيار لجنة وضع الدستور، فمصير وثيقة المبادئ فوق الدستورية المعروفة إعلامياً بوثيقة السلمي قد بات مجهولاً، إضافة إلى أن التيار الإسلامي ما زال حتى الآن متشبثاً بموقفه بشأن منح البرلمان المقبل وحده كل الصلاحيات لاختيار لجنة المئة التي ستضع الدستور، وهو ما يعني اندلاع جولة جديدة من المواجهات بين الإسلاميين والعلمانيين بشأنه، بخاصة في ظل المؤشرات والنتائج الأولية للمرحلة الأولى من انتخابات البرلمان والتي تؤكد تفوق حزبي «الحرية والعدالة» الذراع السياسية لجماعة الإخوان وحزب «النور» الممثل للتيار السلفي على بقية الأحزاب العلمانية، وهو ما يعني مزيداً من التشبث من الإسلاميين بمبدأ استئثار البرلمان وحده بمسألة وضع الدستور ومزيداً من التخوف من العلمانيين بفعل تزايد احتمالات إقصائهم منها. وهو ما يعني إجمالاً أن العسكر مطالبون بالتعايش مع الشرعية الوليدة لثورة يناير، وأن الثوار مطالبون بعقد مصالحة بين مفهومي الثورة والسياسة، وأن القوى السياسية التقليدية مطالبة بالتوافق حول الدستور كي تنتهي حال الانقسام الاجتماعي والسياسي، ويكون واقع مصر بعد الانتخابات مغايراً تماماً لواقعها بعد استفتاء الدستور. * كاتب مصري