للفلسطينيّ الحقّ في أن يشعر بالمرارة، وبالكثير منها. ذاك أنّ قضيّته ارتدّت إلى موقع يكاد يكون مجهريّاً على أجندات الوضع العربيّ بحكّامه ومحكوميه. هكذا بقي منها، في معناها القديم، شيئان: توسّلها وتوظيفها على يد الممانعات، وبعض الفولكلور الفِرَقيّ عند إيديولوجيّين من عشّاق الأمس. ذاك أنّ من الطبيعيّ، في ظلّ ارتداد المجتمعات إلى دواخلها، تحت وطأة الانتفاضات، أن ينكمش الاهتمام بقضيّة تبقى، على أهميّتها الفائقة، خارجيّة. فكيف وأنّ «قضيّة فلسطين» لطالما وُضعت في مقابل ارتداد الشعوب العربيّة إلى دواخلها الوطنيّة، لأهداف لا صلة لها بفلسطين أو بالفلسطينيّين؟ وقد ضاعف المرارة أن تتزامن الانتفاضات مع انقسام فلسطينيّ بين سلطتي رام الله وغزّة لا يبدو رأبه سهلاً، فيما تندفع إسرائيل الليكوديّة في ممارسة قضمها للأرض وعدوانيّتها المنفلتة من كلّ حدّ وضابط. ويعود المصدر الأوّل لهذه المرارة إلى 1948، حين كذبت الأنظمة العربيّة كذبتها على الفلسطينيّين بأنّها «ستحرّر فلسطين»، فيما كانت تؤسّس نهجاً في معاملة الفلسطينيّين الذين نزحوا إلى بلدانها لا يصحّ فيه شيء من تلك المزاعم القوميّة والأخويّة. وبدورهم، ورث العسكريّون «القوميّون» الكذبة عن التقليديّين لأنّ الطرفين التقيا على الهرب من بناء الدول التي استقلّت وآل إليهم أمر حكمها. كذلك شاركت في الكذبة حركات أهليّة شاءت أن تستخدم فلسطين في طموحها لانتزاع السلطة في بلدانها، أو لتحسين مواقعها فيها. وفي النطاق هذا فعل الكلام الإيديولوجيّ المداور فعله، فراح ابن الطائفة المغبونة أو ابن الطبقة المغبونة أو ابن الفئة الاجتماعيّة الصاعدة والطامحة يتناوبون على الكذب باسم فلسطين. وحينما بدأت تنكشف الكذبة للفلسطينيّين، أنشأوا منظّمة التحرير كي يتولّوا أمرهم بأنفسهم عبرها. لكنْ كيف يحصل هذا في ظلّ دول قامت وحدود توطّدت، كما ترسّخت في داخلها توازنات عصبيّة واجتماعيّة حسّاسة؟ هكذا ساهمت الفلسطينيّة، غير العابئة بذاك الواقع القاهر، في توسيع الهوّة القائمة بين «قضيّة فلسطين» وبين ارتداد المجتمعات إلى دواخلها. وسريعاً ما جاءت الحروب الأهليّة في الأردن ولبنان تعلن عن تلك الاستحالة ببلاغة دمويّة. أمّا الآن وقد انتهى الحصاد البائس إلى ما انتهى إليه، فيبقى أنّ الشعوب العربيّة، وهي تستعيد دواخلها، ذات مسؤوليّة أخلاقيّة عن الشعب الفلسطينيّ وألمه، مسؤوليّةٍ يزيدها أنّ الصلف الاسرائيليّ غير محتمل دائماً، فيما محو الكذبة العربيّة على الفلسطينيّين يرقى إلى إحدى مهمّات التغيير والتقدّم. يضاف إلى ذلك أنّ البلدان التي لا يزال بعض أراضيها محتلاًّ تتقاطع مسألتها الوطنيّة مع المسألة الفلسطينيّة. والحال أنّ أوّل المسؤوليّة الصدق والمصارحة بجعل الوعود مطابقة للإمكانات الفعليّة، ومن ثمّ تزمين الموضوع الفلسطينيّ وتسييسه، أي إعادة إدخاله في التاريخ الفعليّ ووقف أسطرته. وهذا ما بدأته، من جهتها، السلطة الفلسطينيّة التي يمكن أن يقال الكثير في نقدها إلاّ هذا. فهل نتفاءل ب «انتفاضة» عربيّة أخرى، تلدها الانتفاضات، تجمع بين الصدق في خوض المعركة السياسيّة دفاعاً عن الحقوق الوطنيّة للفلسطينيّين، وبين الصدق في نزع الأسطرة، وتالياً التوظيف، عن قضيّتهم؟