يبدي النظام الايراني وهيئاته المختلفة اهتماماً تفصيلياً بالوضع السوري. وهو لا يتصرف كمجرد حليف ومُورِّد للسلاح والمال وتقنيات الحرب الالكترونية والبرمجيات المُعَدَّة للتجسس على المعارضين وحسب، بل كطرفٍ معني مباشرة بمصائر النظام ومآلاته. وهو يفعل ذلك وفق خطين متلازمين، ينهلان مما أدَّت إليه بنى الحقبة الخمينية من «تعددية» في مقاربات ومصالح أجهزتها تفضي غالباً إلى ترسيمة مركزية متشددة الجوهر مطاطية التعبيرات. الأول، إنتاج مروحة واسعة من المواقف تبدأ بأكثرها تصلباً واقتراباً من الأدلجة والتي تمثلَّت بما أدلى به مرشد الثورة الولي الفقيه مع بدء الانتفاضة السورية، وقوامه اعتبارها «ضمن مسلسل ضرب خط المقاومة ونهجها» وليس ضمن «نهج الصحوة الإسلامية» الذي ينسب إليه الثورات العربية، بذريعة أن «الاميركيين والصهاينة يريدون إظهار الاحداث في سورية على أنها ثورة شعبية لضرب بلد مقاوم». ثم الانتقال بعد ذلك إلى مواقف متدرجة بعضها يدّعي تفهم الانتفاضة ومطالبها المشروعة ويستنكر في مرات نادرة قمعها الدموي والخيار الامني، لكنه يعارضها في ما تستخدمه من وسائل (استمرار التظاهر في الشارع وما ينسب اليه من تسلح)، وفي «تطرف» مقارباتها كعدم اعترافها بما «تحقق من إصلاحات» ورفضها الحوار مع النظام واشتراطها تغييره بدءاً من رأسه، وفي ما تنسجه من علاقات دولية وما يصدر عنها من مطالبات بحماية للمدنيين السوريين بذريعة استدخالها المخططات الامبريالية الصهيونية الرامية إلى ضرب محور الممانعة والمقاومة واستباق نجاحاته الافتراضية المقبلة بعد إتمام الانسحاب الأميركي من العراق. والثاني، أن يقف ضد كل ما يشكل ضغطاً فعلياً على النظام السوري من شأنه تعويق استخدامه وسائل وشروط تصفية الانتفاضة سياسياً بتفويت التغيير وترجيح إصلاحات تجميلية تنتج شرعية «متجددة» تستكمل ما تعتبره طهران جوهرياً فيه أي كونه نظاماً مقاوماً. ومن هنا، فإن نقد جزء من مراكز القرار الايرانية للخيار الامني للنظام السوري لا يُفسِّره سبب مبدئي. فالسلطة الايرانية استخدمت بدورها الخيار الأمني في شكلٍ رئيس لضرب «الموجة الخضراء» الإصلاحية. وبالتالي فنقدها لمجراه في سورية ناجمٌ عن تعثره وعدم كفايته منفرداً بإفشال الانتفاضة او احتوائها ولخلوِّه من رُشىً اجتماعية وسياسية من شأنها نظرياً تقسيم المعارضة وامتصاص بعض شعبيتها فيما يتعهد القمع الدامي بإخراج جزء آخر. وربما يضاف إلى ذلك تأثير استخدامات الملف السوري في الصراعات بين مراكز القوى والإحراج الذي يسببه للدعاوة الإيرانية اضطرارها إلى الكيل بمكيالين بين ثورات تدَّعي انبثاقها من صحوةٍ بعَثتها الخمينية من سباتٍ تاريخي. وليس أدلّ على ذلك من تصدي طهران المكشوف لقرارات الجامعة العربية القاضية بتعليق مشاركة سورية في أعمال الجامعة وسحب السفراء والتهديد بعقوبات اقتصادية لعدم تنفيذها المبادرة العربية التي تدور أساساً حول وقف القمع، تمهيداً لحوارٍ ينعقد في مقر الجامعة، والاعتراف بمعارضةٍ جهد النظام في تجاهلها واعتبارها «خارجية». وهي إذ اعتبرت قرارات الجامعة «خطأ تاريخياً» مؤدياً إلى الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي - وهو موقفٌ يتشابه مع موقف النظام السوري نفسه - فلأن القرارات إذا لم تُنفَّذ تزيد في عزلة النظام عربياً ودولياً، وإذا نُفِّذت تتيح تنافساً شبه متكافئ يؤدي إلى التغيير. ولعلَّه بليغ الدلالة أن يصل التدخل الايراني في دعم النظام بوجه هذه القرارات، حد ممارسة ضغوط اقتصادية - سياسية مكشوفة على دول كموريتانيا والسودان والوعد بميِّزات إقليمية لدولٍ أخرى. وفي سياق التصدي العملي نفسه لأية ضغوطٍ على النظام يمكن وضع قرار طهران بشراء النفط السوري بعد قرار دول الاتحاد الاوروبي بمقاطعته، وهي التي كانت تستورد 90 في المئة منه وتوفِّر بذلك جزءاً مُعتَبَراً من الموارد المالية لنظامٍ يعيد استخدام شطرها الاكبر في الإنفاق على أجهزته العسكرية والأمنية وتغذية شبكات الفساد العائلية والزبائنية. ومثل ذلك يمكن قوله عن الضغوط التي تستهدف تركيا منذ غيّرت موقفها من النظام السوري وبعضها مُعلَن. كمثل التحذير الذي أطلقته جريدة الحرس الثوري «صبح صادق» منذ أوائل الصيف المنصرم والذي جاء فيه صراحة «لو استمرت تركيا في الإصرار على مواقفها على هذه الوتيرة فسيؤدي ذلك إلى تفاقم الأزمة، الأمر الذي سيرغم إيران على التفاضل بين تركيا وسورية، وفي هذه الحالة منطق المصالح الاستراتيجية والمعرفة العقائدية سيدفع إيران نحو اختيار سورية». أمّا رحيم صفوي القائد السابق للحرس وأبرز مستشاري المرشد فقد هدَّد «تركيا بخفض العلاقات السياسية والاقتصادية إذا استمرت في سياساتها تجاه سورية»، مضيفاً: «إذا فشل القادة السياسيون الأتراك في أن تكون سياستهم الخارجية وعلاقتهم مع إيران واضحة فسيواجهون مشاكل». ومؤدّى ذلك أن النظام الإيراني إذ يبدو مستعداً في هذا الملَّف، لممارسة سياسة ترغيب وترهيب علنية مع قوة بحجم تركيا ودول أخرى في المنطقة وخارجها، فلأنه يعتبر السلطة السورية «واسطة العقد» في منظومة طرفها في لبنان وغزة وتعكس طموحه إلى لعب دور القوة الاقليمية الأعظم بأفق دولي تسوغه توليفة ايديولوجية تجمع بين القومي المذهبي والنزوع الجامح إلى تزعم نمطٍ من أممية «إسلامية» معاصرة. حتى ان التساؤل يصح عمّا إذا كان لا يزال ممكناً له إعادة تجديد نفسه من دون هذه «الخارجية» الصراعية. الأمر الذي يُظهِر من جهة خفة توصيف النظام السوري بالعلماني، ومن جهة أخرى هشاشة البحث عن تغيرٍ فعلي يخرج عن محاولة الاحتواء والتشتيت في موقف النظام الإيراني من الانتفاضة السورية ومطالبتها بديموقراطية مدنية تعددية هي على الضد من مبادئه المؤسِّسَة وليس فقط من طموحاته الاستراتيجية. اللهم إلاّ ذلك التكيّف الذي سيضطر إليه عند ثبوت نهاية إمكانية الدفاع عن الحكم السوري رأساً ومؤسسات، والذي قد يكون اليوم بمعرض تحضير افتراضي لبعض عناصره التواصلية، وحسب. حتى إشعارٍ آخر يبقى النظام الايراني خصماً رديفاً للانتفاضة السورية. * كاتب لبناني