ماذا تعني فلسطين في الأدب اليوم، وفي الرواية تحديداً؟ هل هي مجرد استعارة منفلتة عن المعنى وعن كل قدرة على السيطرة، وكلما حاولنا وضع حدود لها هربت منا؟ أم هي أكثر من ذلك كله، حالة ثقافية صعبة ومؤلمة، تحتاج منا أن نتجاوز الوسائل التي اشتغلنا من خلالها أدبياً حتى اليوم وتجديد رؤانا؟ لقد كانت فلسطين دائماً موضوعة فكرية وحضارية وثقافية تهمنا كثيراً، بل تشكل منشغلاً مركزياً تعاملت معه الفنون باللغة والألوان والحركات بكثير من الحماسة والرغبة في إحداث المنجز الذي يساهم في تغيير الصورة إلى العربي عموماً والفلسطيني تحديداً، وإيصال انشغال إنساني عميق لم يجد إلى اليوم آذاناً مصغية. من هذا المعطى الثقافي الكبير، تجلت فلسطين بكل صورها في النصوص الروائية، بقوة بالخصوصيات نفسها. لكن المتأمل للجيل الثقافي العربي والفلسطيني الجديد الذي يفاجئنا بكتاباته، يشعر بأن شيئاً عميقاً قد تغير أو هو بصدد ذلك. يذكرنا بوسائله الفنية الحية بأن انقلاباً عميقاً وقع في العالم الذي يحيط بنا، تغيرت معه رؤانا. ويعيد النظر في الرؤيتين اللتين تتجاذبان موضوعة الصراع، رؤية عربية ثابتة وقانعة بما يدور حولها وكأن العالم لم يتغير وكأن ميزان القوى لا يزال على حاله، وكأن العولمة لم تفرض شروطها وكأن العالم الذي أصبح قرية صغيرة لم يغير شيئاً فيناً؟ وهي رؤية مرتاحة ليقينها المسبق. ورؤية عربية ديناميكية ترى كل شيء في حركه وفق الشرطيات المحيطة بقضايانا الكبيرة. وربما كانت النظرة الشابة الناشئة من دمار الخيبات واليأس هي ما يسترعي الانتباه الفني والنقدي، إذ أن هذه الرؤية تخرج بقوة من دائرة التكرار والاستعادة الاجترارية التي لا تقدم شيئاً جديداً في عالم يسير بسرعة ويترك وراءه من لا يستطيع اللحاق به ويحاول فهمه حتى داخل التراجيدية واليأس، وأحياناً الاستحالة. رهان الرواية الأساسي في تعاملها مع القضية الفلسطينية هي أن تخرجها من كونها قضية فلسطينية سجينة داخل كماشة صراع داخلي لم يحسم ولن يحسم بسهولة من دون انتكاسات، أو عربية فقط، عرضة للصراعات والمصالح والحسابات التي ترهق الفلسطيني والعربي المحب أيضاً لهذه الأرض، أن يوصل صرختها إلى ابعد نقطة على هذه الأرض. السؤال إذاً هو كيف تنتقل الرواية في تعاملهما مع قضية قومية، إلى التعامل مع فلسطين كقضية تضع الكاتب أمام رهان الإنسانية الأوسع، بحيث تصبح القضية الفلسطينية قضية أشمل بامتياز، تهم الفنان العربي بالقدر نفسه الذي تهم فيه الفنان الأميركي، الفرنسي، الصيني، الأرجنتيني، الياباني، السويدي الخ... الانتقال من الإحساس الضيق إلى الإحساس الشمولي لأننا لسنا وحدنا في عالم يجيش بالتناقضات والمجار والخروقات. تحويل موضوعة فلسطين نحو هذا الأفق الروائي، يحتاج بالضرورة إلى أدب يرتقي إلى الحالة الإنسانية ويمزق بقوة غشاء القومية الضيق الذي لم يعد كافياً لإقناع عالم معقد مبني على المظالم والمسلمات وكم كبير من العمى، ولكن مبني أيضاً على قيم إنسانية عليه أن يعيد تأملها ورؤيتها وقراءتها وحمايتها. الرواية هي الفن الأسمى والأعقد الذي يضع العصر أمام قيمه التي خلقها واخترقها بلا تردد. التراجيديا الفلسطينية لم تحدث في القرون الغابرة، والكثير من محركيها لا يزالون إلى اليوم أحياء. فهي الاستعارة المثلى التي تضع العالم المتحضر ليس فقط أمام قضية إنسانية تهم بشراً شردوا من أراضيهم وسُرِقَ حقهم في الحياة، ولكنها تصفعه بقيمه نفسها، التي تخلى عنها في هذه الأرض بالذات، المخترقة بمختلف القيم والثقافات والأديان، والتي كان عليه أن يكون فيها حيوياً وخلاقاً ولا يبرر هولوكوست كان وراءه، بهولوكوست آخر يصمت عليه ليتذكره بعد قرن حيث يصبح كل شيء تاريخاً. وضع الإنسانية في حالة احراجية أمام قيمها نفسها التي دافعت عنها خلال القرون المتتالية، وكنا بجانبها بعقلائنا وعلمائنا ومفكرينا. فالعقل الإنساني فعل حي وجماعي. مشكلتنا كعرب أننا ما زلنا نفكر في عالم كأننا الوحيدون الموجودون فيه، وأن على العالم أن يصغي إلينا من دون أن نصغي إلى التكسرات الحاصلة في عمقه. ما زلنا تحت سطوة فكرة حضارية كانت تضعنا في المقدمة وننسى أننا انفصلنا عن الفعل الحضاري منذ أن سلمنا في حقنا في العقل والنور واقترضناهما عدوين تجب الحرب ضدهما بلا هوادة. تحويل القضية الفلسطينية إلى انشغال إنساني من خلال نصوصنا الإبداعية، الروائية تحديداً، وإخراجها من هاجس السياسة والإيديولوجية الفجة، هو الرهان الكبير للمستقبل للسير بهذه القضية في أفق يمكن أن يضعها من أولوياته الأساسية. العالم ليس كله معادياً للعرب، هناك أصدقاء يسمعون لهذا الأنين المتأتي من الجروح الغائرة، وليس العالم كله صديقاً لقضايانا، يلتفت لنا كلما استنجدنا بسلطانه وقوته وعدالته. الموت روائياً تتبدى هذه الاستعارة في التناقضات التي تقاوم الموت في النص الروائي الذي يقاوم بفنية عالية وأحياناً وفق رومانسية جميلة. ربما لأن الرواية كجنس هي الأكثر ديموقراطية عالمياً، التي لا يمكن تكميمها أبداً. عرفنا في وقت مبكر، الكثير من الأسماء الخلاقة التي أضافت نوعياً إلى الرواية العربية، غسان كنفاني، جبرا إبراهيم جبرا، إميل حبيبي، سحر خليفة، يحيا يخلف، إبراهيم نصر الله، وغيرهم، من الذين ساهموا في تشييد معمار أدبي خاص بالرواية الفلسطينية الحديثة التي ظلت تقول القضية في كل تحولاتها التاريخية الحادة، من الفترة العثمانية، إلى اتفاقيات سايكس - بيكو، إلى نكبة 48، إلى الترحيل القسري، إلى المخيمات والتشرد، إلى المقاومة، إلى الاستنزاف الداخلي. ظلت رواية الجيل الأول والثاني تقول المأساة، وتقول الأمل في الوقت نفسه، ولكن الخطاب السياسي كان سيد بنيتها الجوهرية إلا في ما ندر وهو ما يؤكد فشل الحركة الوطنية أدبياً. إلى اليوم لم تكتب رواية الجزائر مثلاً التي تضع المأساة التي عاشها الشعب الجزائري في أفق ملحمي عظيم تجسد، لا رحلة السبع سنوات التراجيدية التي على رغم عظمتها، لا تشكل إلا لحظة في صيرورة الملحمة، ولكن رحلة قرون من الانكسارات والخيبات والنهوض الدائم يحَس به بعمق على رغم صعوباته. الكاتب تولده التراكمات الإبداعية التي تؤدي حتماً إلى هذه النتيجة المتعددة. في الرواية الفلسطينيةالجديدة أسئلة معقدة عجزت الأجيال الأولى عن قولها. أسئلة هي مزيج من الخيبة والرغبة في فعل شيء يغير نظام اليأس من جذوره ويفكك الأسباب المتخفية من وراء ذلك. أنجزت هذه النصوص ما عجزت السياسة المتهالكة اليوم عن تحقيقه. فالمخيال الفلسطيني بخير ولا يزال قادراً على الإبداع والخلق والبناء. إن الهاجس الوطني لا يزال قوياً. يشكّل الموضوعة الجوهرية لمعظم الروايات الشبابية من دون استثناء، حتى أكثرها استغراقاً في الذاتية والغرائبية، من دون التخلي عن النظرة النقدية الصارمة المحرجة أحياناً والتي تقول ما تخاف السياسة من قوله. فلا يمكن لأدب جديد وحقيقي أن ينشأ من دون القدرة على تقبل النقد والخصوصية والخروج من دائرة الترديد، مع تجذر الرهان الحقيقي في الحفاظ على أدبية النص إلى أبعد حد ممكن. يشكل هذا النوع من الكتابة عند هذا الجيل الحيوي، انتقاماً ضد التقاليد الأدبية الكلاسيكية المصحوبة بالخيبات التي ارتبطت بالجيل السياسي السابق الذي فشل في السير بالأوطان إلى آفاق التحرر والمواطنة الحقيقية، وبقي حبيس الخطابات الجاهزة. من هنا، فأهم ما يتجلى في هذه الكتابات الجديدة، هي قدرة الكاتب الفلسطيني الشاب على التجريد والخروج من الواقعية الحرفية التي أكلت الرواية الفلسطينية التأسيسية وما بعدها والابتعاد عن ديكتاتورية الخطاب السياسي الوثوقي. الكثير من الروايات التي صدرت في السنوات الأخيرة، خرجت في سردها عما ألفته المقروئية العربية من المباشرة والواقعية الحرفية، وقدمت لعبة فنية واضحة تقول السياسي والمؤلم في الآن نفسه، تنشئ منظومتها النقدية وتخرج عن التقديسية المتوارثة في ثقافتنا السياسية العربية، مبتعدة عن الثرثرة الكلامية غير المفيدة. هناك اقتصاد لافت للنظر في اللغة الروائية من دون أن يفقدها شعريتها وقوتها الداخلية. وهذا ما يبشر بوعي روائي كبير لدى هذه النخبة الجديدة، بالمسألة اللغوية التي هي المادة الأساسية بالنسبة للكاتب. في مقابل ذلك كله، لم تهمل هذه الروايات مطلقاً الموضوعات التي تشد إليها قارئها. اشتغلت على الإنسان البسيط، ولكنها توغلت أكثر في سبر أغوار النخب الثقافية في ارتباكها وقوتها. لم تنظر بتقديسية ولكن بآلة النقد الحادة. وقد برز التعدد واضحاً في نظرتها. من المثقف المسالم، إلى المثقف المتواطئ، إلى المثقف الهش الذي يتجاوز شرطه القاسي، إلى المناضل والمستميت من أجل ما يؤمن به. خرجت الروايات من التوصيفات النمطية للنموذج البطولي الخارق، وانحازت بوعي للهشاشة الإنسانية المحركة لحساسية القارئ. فقد وضعنا الكثير من هذه الروايات أمام بطل يقف على عتبة التساؤل القاسي عن مصيره ومصير أرضه وأشواقه. بطل مضاد للبطولة، ناقد لها، علمته قسوة الوجود أن ينظر إلى الحياة ليس فقط في جانبها الأملس ولكن في متغيراتها القاسية التي تضعنا وجهاً لوجه أمام مصائر تراجيدية. تنوع موضوعاتي وفني يضع الرواية الفلسطينيةالجديدة على حافة سؤال مركزي يتعلق بقارئ افتراضي هو بصدد الولادة والتكون، سيستقبل هذا المشروع حتماً بمزيد من الحماسة والرغبة في الفهم لأنه يشبهه، وربما كان التعبير الفني عنه. هذا دليل صحة وتطور وانفتاح على أفق واسع لم تستطع آلة الاحتلال أن تسده، وأن تدخله في دائرة الموت والانغلاق. إن قوة الإرادة والمغامرة المشفوعة برغبة كبيرة في التجدد، تضع كل حظوظ الانتصار بجانب هذه التجربة الفلسطينيةالجديدة والحيوية. فلا خوف على مستقبل القدرات الفلسطينية الخلاقة، ما دامت المخيلة قادرة على الاشتغال، وعلى تخيل وطن لم يعد مجرد احتمال، فقد أصبح رواية لا تربي الأحقاد العرقية والدينية ولكنها تورث للأجيال حقاً لا يموت أبداً، من خلال مخيال حي ومتجدد.