ينزل مصريون كثر إلى الميادين اليوم ليجددوا رفضهم الحكم العسكري وللمطالبة بنقل السلطة إلى مدنيين منتخبين. الرد المنتظر والذي قدم المشير حسين طنطاوي عينة منه قبل يومين، يعلن أن الجيش في غير وارد التنازل عما يعتبره حقوقاً غير قابلة للنقاش. يستدعي موقف الجيش أسس الشرعية التي يبني عليها تمسكه بالحكم واشتراطه إجراء استفتاء شعبي للعودة إلى ثكناته. والجيش المصري، إضافة إلى إحاطة نفسه بهالة من التقديس والتبجيل، على غرار غيره من المؤسسات العسكرية العربية (وأكثرها لا يستحق أياً من هذين التقديس والتبجيل)، يقدم نفسه منذ عقود على أنه مصدر شرعية السلطة في مصر لفضله في إقامة الجمهورية وحمايتها وإطاحة الحكم الملكي ومفاسده. وكرس جمال عبدالناصر وأنور السادات جهوداً ضخمة لتبرير شرعية حكم العسكر. ولم يجد حسني مبارك سوى قصة «الضربة الجوية» في حرب أكتوبر ليمدد شرعية سلطة الجيش وليغطي نفسه بهذا الدور. ما فعله طنطاوي في الأشهر العشرة التي تولى فيها حكم مصر حكماً شبه مطلق (بفضل وثيقة المبادئ الدستورية التي أُعدت للمجلس الأعلى للقوات المسلحة «غب الطلب»، على ما يقال) هو إهمال القيام بأي جهد لتجديد الشرعية العسكرية بل الإيغال في الوهم القائل إن الثورة تستمد شرعيتها من حماية الجيش لها، في حين أن الحقيقة نقيض الاعتقاد هذا. فالجيش بعد تنحي مبارك بات في حاجة إلى مصدر جديد لشرعية دوره في الحياة العامة. افترض طنطاوي وصحبه أنهم قادرون على العثور على شركاء سياسيين في «الإخوان المسلمين»، بيد أن هؤلاء كانوا من الدهاء بحيث رفضوا اللعب في ملعب الجيش والاستسلام لمشاريعه بثمن بخس، وقرروا الإبقاء على نوع من «الحوار النقدي» معه. وبعد التوتر والشكوك التي سببتها مجزرة الأقباط في ماسبيرو، جاءت «وثيقة السلمي» لتكشف ما سعى الجيش إلى ستره: الرغبة الصريحة في فرض وصاية على المؤسسات كافة، المنتخبة والقضائية والبقاء في منأى عن أي نوع من أنواع المساءلة الضرورية في أي بلد يسعى إلى أن يكون ديموقراطياً. النبرة المغتربة عن الواقع التي تحدث بها طنطاوي إلى المصريين، ذكّرت الكثيرين بلهجة خطابات مبارك في أيام حكمه الأخيرة، في استعلائها على الشعب المصري واعتباره عاجزاً عن إدراك مصالحه القريبة والبعيدة المدى. ربما ينبغي لنا، ولفهم الخلفيات التي تؤسس لسلوك العسكريين المصريين الحاكمين منذ عبدالناصر، أن نعود إلى مراحل أبعد في تاريخ الجيش المصري الحديث، إلى مرحلة تأسيسه على يد محمد علي باشا والفكرة العامة التي دارت في رأس الباشا عن استخدام هذا الجيش كأداة لإخضاع الشعب المصري لرغبات النخبة (غير المصرية في ذلك الحين)، ليس من طريق ممارسة القمع المباشر بل من طريق تطويع الفلاحين المصريين ضمن آليات ضبط وربط قاسية يمارسها عليهم ضباط منخرطون بشبكة معقدة من المصالح والولاءات ويشكلون ضرباً من المجتمع المغلق. وقد يكون كتاب خالد فهمي «كل رجال الباشا»، الذي شرّح البنية الاجتماعية للجيش المصري في عهد محمد علي، أداة مفتاحية لكسر هالة الأسطورة التي شيدتها القوات المسلحة حول نفسها وسعت من خلال امتناعها عن الخضوع لما تخضع له باقي المؤسسات المصرية، إلى تأبيد سلطتها المتشعبة. ما لا يستطيع أو لا يريد كبار ضباط الجيش المصري فهمه هو أن شرعية سلطتهم قد نضبت وأن التناقض الذي يعبر عنه ثوار ميدان التحرير اليوم هو، بالضبط، ذلك القائم بين سلطة مدنية يختارها الشعب وبين سلطة عسكرية تسعى إلى تشكيل شعبها وفق مزاجها.