أوضح الدكتور عمر السيف أن المؤسسات الثقافية لم تصل بعد إلى صيغة تحدد هوية المثقف، الأمر الذي جعل الأندية الأدبية تجد نفسها في «حيص بيص» فيمن يحق له العضوية والتصويت، مشيراً إلى أن المثقفين الحقيقيين هم من يتبنون المعايير الأزلية للحق والعدل، بشجب الفساد ونصرة الضعيف، وتحدي السلطة القمعية. وقال في حوار مع «الحياة» إن الاعتراف بالآخر حاجة إنسانية أساسية، ولكن إلى أي حد نستبطن هذا المفهوم، لافتاً إلى أن الخطاب الليبرالي السعودي، الذي يعدّ احترام التعدد والاختلاف من أهم أدبياته، يُمارس الإقصاء عندما يختلف معك، وربما يستَعْدَي عليك السلطة... إلى تفاصيل الحوار: يرى البعض أن الأكاديميين يفسدون الجو الثقافي برؤاهم وتنظيراتهم؟ - لا يمكن فصل الجو الثقافي عن الأكاديمي، بل إنّ المثقف - كما يُقال - يمكن أن يكون أكاديميّاً، ويمكن أن يكون عازف بيانو. هل أزمة المثقّف - في نظرك - تخصّ المثقف العربيّ وحده؟ - لا بالطبع، فالمثقف مفهوم تفجّر بعد ما يُعرف تاريخيّاً باسم «قضيّة دريفوس»، وارتبط بمحاربة التعصب والطغيان ومناصرة الحقّ، فقد نزل الأدباء والمفكرون إلى حلبة الصراع السياسي والفكري، وهو مفهوم واجه انتقاداً شديداً. يقول الناقد الأكاديمي برونتيير: «المثقف ليس أهلاً أن يلج إلى عالم السياسة أو إطار النظام المجتمعي من باب الثقافة أو القيم الثقافيّة الكبرى كالحق والخير والعدل. إنّ هذه القيم غير قابلة لأن تجسّد في فعل سياسي مشخص»؛ أي أنّ القِيَم التي يحملها المثقّف رائعة نظريّاً، ولكنّها تسقط في أثناء التطبيق. ويقول إنّ «تدخّل هذا الروائي في مشكل لا يهمه، مثل القضاء العسكري، لا يبدو لي أقلّ سخفاً مما سيكون عليه الأمر لو أنّ ضابطاً تدخّل في مشكلة تتعلّق بالنحو أو العروض». هذا المفهوم الذي رسّخ قيم الليبراليّة توارى حتّى في الغرب، وأصبحوا يشعرون بالعجز بسبب تهميشهم أو يلتحقون بالمؤسسات، ومن ثمّ تُباع أصواتهم. وهل ترى أن المثقّف يجب أن يبقى في تخصصه «إن كان أكاديميّاً»؟ - عندما يتمكن الباحث من قدرته البحثيّة، ويتّصف بالحياديّة والموضوعيّة والمنهجيّة، ويحقّق إضافة معرفيّة في بحوثه؛ فمسموح له أن يدخل أيّ حقل. أمّا عندما يقدّم رؤى تعتمد على مشاهدات وانطباعات، فهذا ما يُختلف بشأنه. بين المشكلة الإدارية والمشكلة الفكرية، من يتربص بثقافتنا العربية أكثر؟ - المشكلة السياسية! الانتخابات الحرة، هل تخدم المنجز الثقافي عندنا؟ - الانتخابات الحرة النزيهة تخدم الوطن والمواطن، وتجعل الفرد مشاركاً في اتخاذ القرار وتحمّل عواقبه. الانتخابات ثقافة لَمَّا نتعلمها بعد، ففي مصر أدّى خروج الناس إلى ساحة التحرير إلى سقوط مبارك، مما جعلهم يخرجون إلى تلك الساحة ليهاجموا ويشتموا متى أرادوا شيئاً؛ لأنّ الشعوب لَمَّا تستبطن الديموقراطية التي تجعل صندوق الاقتراع مفتاح التغيير. إذا كانت الانتخابات ثقافة؛ ألن تخدم الثقافة؟ التمثيل الثقافي السعودي في المحافل الخارجية، هل يخضع لضوابط تضمن جودته؟ - لا أُريد أن «أشتم» أحداً، ولكنّ معظم أمورنا تحرّكها «المجاملات». تكرار الأسماء في المشهد الثقافي السعودي مسؤولية من؟ - في نظري مسؤولية مشتركة، بين الإعلام الذي لا يستطيع تمييز الغثّ من السمين، ويبحث عن الإثارة أيّاً كان مصدرها، ومسؤولية من أشغل الوسط الثقافي بجدالات تافهة تسطّح الفكر ولا تعني أحداً. في الإمارات كبار المثقفين العالميين يحضرون، عندنا لِمَ الأسماء التي تحضر مستهلكة؟ - لا نريد أن نجلد ذواتنا بمزيد من السياط، ولكنّني أؤكد أن المملكة لديها قدرات مادية وبشرية عظيمة تجعلها قادرة على صناعة الإنجازات، ولكنّها لم تستغل هذه الإمكانات. من وراء كون الصوت الثقافي في جامعاتنا مبحوحاً أو بلا صدى أحياناً؟ - التخصصات الإنسانية والاجتماعيّة هي روح أيّ حداثة وتطوّر، والاهتمام بالتخصصات العلمية والطبية على حساب التخصصات الإنسانية هو فصل للروح عن الجسد، وإذا كانت أوروبا قد تطورت بالصناعة، فلا يمكن أن يُفصل تطورها المادي عن تطورها في مجال الفلسفة والإنسانيات التي مهدت وواكبت. أعود لأقول إنّ اهتمام الجامعات بالتخصصات الإنسانية قلّ وضعف، وأصبحت الأنشطة الفكرية والثقافية محدودة... انظر إلى الكثير من خريجي الجامعة الذين كانوا المنارات التي يستهدي بها المجتمع، تلحظ أنّهم أميّون فكريّاً، وعالة على غيرهم في التفكير. ماذا منحت المرأة الثقافة بشكل عام، وهل أنصف المثقفون المرأة؟ - تغيّبت المرأة عن ميدان الشعر في العصور القديمة فحضرت موجِّهة للشعر، ولي حديث طويل في هذا الشأن في كتاب «الرجل في شعر المرأة العربيّة»، فالمرأة حضرت في العمليّة الإبداعية بوصفها موضوعة، وحاضرة بوصفها موجِّهة وناقدة، وفي العصر الحاضر حضرت شاعرة وقاصّة وناقدة. قلت إنّ لديّ يقيناً بأن السرد النسويّ هو الذي سيتفوّق. أمّا علاقة المرأة بالثقافة؛ فما أخشاه هو أن نحاول أن نبرهن على وجود مثقفات فندفع بأنصاف الموهوبات ليتصدرن مشهدنا الثقافي. ألا ترى أنّ المرأة المبدعة عانت من التهميش؟ - عانت قديماً من التهميش لأسباب كثيرة، لكنّها حضرت منذ أواخر القرن الماضي، وعبّرت عن توقها إلى الحريّة، ولي بحث باللغة الإنكليزيّة عن ذلك، إذ يتناول دراسة ثقافيّة لشعور الشاعرة الخليجيّة بالتهميش الثقافي والاجتماعي، وتعبيرها عن هذه المشاعر شعراً، وهذه الرغبة في الحريّة قد تكون انعكاساً لواقع اجتماعي يقصي المرأة، وقد تكون موضة أدبيّة مع تزايد صوت النسوية في اتجاهات ما بعد الحداثة؛ أي بسبب المثاقفة. مجتمعنا المحافظ وخصوصيتنا، هل هما عقبتان أمام الإبداع الأدبي؟ - المحافظة قيمة إيجابية في نظري إن لم تؤدِّ إلى الانغلاق، والإبداع الأدبي الحقّ يتفجّر في أيّ بيئة. كيف تقوِّم مستوى الحريات في ثقافتنا؟ - مستوى الحرية عالٍ لدرجة أخرجت الأدب عن حدوده... كان الكثير من النقاد يرى أنّ تقييد الحريّة جعل الأدب ضعيفاً وموجّهاً، ولكن بعد ثورة الاتصالات تركّز الأدب – ولاسيّما القصصي - في ما كان مسكوتًا عنه، فلم يعد الأدب أدباً وإنّما ثرثرة وبلغة ركيكة أحياناً. ما تقويمك لمعارض الكتب عندنا، ولِمَ تنتابها توترات وأحداث؟ - أشعر أنّ هناك من يريد لهذه التوترات - كما أسمّيها - أن تبقى، وإلا فلِمَ يحرص كلّ فريق على التربص بالآخر واستفزازه. الحداثة لماذا سقطت بسبب خطاب انفعالي؟ - الحداثة سقطت لأنّ مجتمعنا آنذاك لم يكن مستعدّاً لأيّ تجديد أو تغيير بل ولا مستوعباً لذلك... كان المجتمع - في مجمله - يعيش طفولة فكريّة وحضاريّة، فيُنتقى له ما يراه ويسمعه ويقرأه، ومن ثمّ أصبح المجتمع مطواعاً لبعض الأصوات الموثوقة. بعد ثورة الاتصالات وأحداث 11 أيلول (سبتمبر) وتغيّر الرؤية السياسية؛ وجد الناس كوناً لم يعرفوه، ولم يتوقعوا وجوده، وأصبح الخطاب الذي يؤمنون به ويتداولونه محلّ نقاش ونقد - مجحف أحيانًا - ما أوجد الشك في الكثير من المسلَّمات، فحدث نوع من العبث الفكري والأدبي بسبب خروج هذا المجتمع من عباءة الوصاية. لقد كان المجتمع مثل أولئك الأطفال الذين يُلزمهم ذووهم بالبقاء داخل غرفة موصدة، وفجأة وجدوا الأبواب مفتوحة والحراس عاجزين، فذهبوا في كلّ اتجاه، وبدأوا بما كانوا يُخوّفون منه... فلا سُلطة عليهم، ولا مناص عن القول إنّ بعض الأفراد خافوا من هذا الفضاء الخارجي ومن المجهول، فآثروا أن يعودوا إلى حجرتهم الضيقة حيث الشعور بالأمن، وأخذوا يحرضّون السجان على إغلاق الأبواب. هل كان النقد للخطاب الديني مجحفاً بنظرك؟ - بلا شكّ، عندما تنقض - ولا أقول تُنقد- ثوابت المجتمع التي نشأ عليها والتي يستلهم منها منظومته الأخلاقية فأنت تقتله أخلاقيّاً. * المثقفون الذين كانوا يصنعون التغيير أصبحوا «يقتاتون» منه