دخل العربة وسار بحذر بين الأجساد المتلاصقة. العرق المختلط بأتربة الطريق حفر على وجهه خطوطاً بُنية. بصوت خفيض نادى على البضاعة التي يحملها. مناديل ورقية، وقدَّاحات. لم يستجب له أحد من الركاب. طفل صغير أفلت من يد أمه وأتى إليه مسرعاً. شدّه من جلبابه. أخذ الجنيه من يد الصغير وقرَّبه من عينيه الخابيتين ثم مدَّ له علبة المناديل. رفض الصغير النحيل أن يأخذها منه، وعاد إلى أمه التي قبَّلت رأسه. وقف العجوز لحظات لا يعرف هل يعود إلى أول العربة ويصر على أن يعطي الأم المناديل، أم يكمل طريقه. نظرتُ إلى عينيه باسمة ومددتُ يدي بجنيه آخر. عيناه تنظران إليَّ بامتنان، ويداه تمتدان بالكيس البلاستيكي الذي يضع فيه ما معه من بضاعة، فأنا لم أقل له ماذا أريد من بضاعته. في خجل قلت له هامسة: «شكراً، لا أريد شيئاً». يده لا تزال ممدودة ونظرة الامتنان تحولت إلى نظرة خجل وقال: «تفضلي». أعدتها ثانية بصوت يكاد لا يخرج من حلقي: «شكراً، لا أريد شيئاً». كان وجهه يصفو وهو يسير بين الأجساد. ظل ينادي على بضاعته، ثم خفت صوته ولم أعد أسمعه. اعتقدت أنه نزل في المحطة السابقة. بعد قليل، نظرتُ إلى آخر العربة فوجدته يركن رأسه إلى الحائط المعدن الذي يفصل عربة المترو التي نركبها عن العربة الأخرى. قمتُ إليه جزعة. عيناه زائغتان وصدره يعلو ويهبط. نظرتُ حولي أستنجد بالجالسين. تجاوبت معي سيدة عجوز في مساعدته على النزول بمجرد أن توقف القطار. ذهبنا به إلى الكراسي الرخامية على رصيف المحطة. الموظف خلف ماكينة التذاكر يندهش من لهفتي وصوتي المتسارع. بصعوبة فهم أنني أريد طبيباً. قام من خلف الماكينة متأففاً ونادى على المسعف. جاء الرجل مسرعاً. أمسك بيده وجسّ نبضه. ثم أخرج سماعة من حقيبته ووضعها على قلبه. التفت إليَّ وقال: هل هذا والدك؟ قلت: «لا». قال: «لقد فارق الحياة». تركتهم يبحثون في ملابسه عن أوراق تدل على هويته، وجلست على الرصيف لا أعرف ماذا أفعل. حين حمله الرجال وقعت الحقيبة البلاستيكية التي كانت تحمل بضاعته الزهيدة. قمت مسرعة وأمسكت بها... بينها منديل من القماش ملفوف على أوراق. فردتُ المنديل فوقعت بطاقة هوية ومحفظة بلاستيكية فيها صورة لطفلة صغيرة. أسرعت وراءهم وأعطيتهم الحقيبة، وعدتُ بتخاذل إلى الرصيف.