تشهد مصر منذ نجاح ثورة 25 يناير في إطاحة نظام حسني مبارك، حالة من الجذب والاستقطاب بين قوى دولية وإقليمية فاعلة في المنطقة. فالقوى الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية، تريدها دولة ديموقراطية على النمط الغربي، في حين ترغب إيران وتركيا أن تكون دولة إسلامية، لكن مع اختلاف التوجه الإسلامي، فالأولى تريدها إسلامية «محافظة» والثانية إسلامية «علمانية». وهناك دول عربية «محافظة» تريد بقاء الوضع المصري على ما هو عليه لأن أي تقدم مصري نحو الديموقراطية يُؤثر على مستقبل الحكم فيها، ودول أخرى تريدها أكثر ثورية. في إطار تلك المساعي لاستقطاب النظام المصري الجديد، تسعى واشنطن لضمان مصالحها وعلاقاتها مع نظام ما بعد مبارك انطلاقاً من أهمية مصر ومحوريتها لتحقيق المصلحة الأميركية في المنطقة، وخصوصاً تحقيق الاستقرار والسلام الإقليميين، ومن اقتناع الولاياتالمتحدة بأن ما يحدث في مصر سيكون له عظيم الأثر على الأوضاع في المنطقة برمتها. فما كانت الثورة لتتنقل إلى دول عربية أخرى ما لم تمر بالأراضي المصرية. ولذا بدأت الإدارة الأميركية البحث في مستقبل العلاقات الأميركية - المصرية في ضوء متغيرات عدة راحت تتشكل عقب نجاح ثورة 25 يناير وقرب موعد الانتخابات الاشتراعية والرئاسية اللتين ستحددان وجه مصر داخلياً وخارجياً. وهي مؤشرات لتغيرات في توجهات السياسة الخارجية المصرية في مرحلة ما بعد مبارك. وهو الأمر الذي دفع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى التصريح عقب زيارتها الأخيرة للقاهرة ولقائها عدداً من المسؤولين المصريين «إنه سيكون هناك قرارات مختلفة في سياسات مصر الخارجية الجديدة عما كانت عليه إبان نظام مبارك». وأضافت أنها تعتقد أن «الولاياتالمتحدة سيكون لها شكل مختلف من النفوذ في مصر. إننا نتعامل الآن مع ديموقراطية آخذة في التطور». ونُجمل المتغيرات التي سيكون لها كبير الدور في تغيير شكل العلاقات المصرية - الأميركية في خمسة متغيرات رئيسية، هي: أولاً: تلبية النظام المصري الجديد لتطلعات الشارع المصري الذي أضحى فاعلاً في القرارين الداخلي والخارجي، على حد سواء. فعقب نجاح ثورة 25 يناير تزايد دور الرأي العام كمحدد وتأثيراته في السياسات المصرية، وهما المحدد والتأثير اللذان كانا غائبين طوال الثلاثين عاماً الماضية واللذان سيدفعان السياسة الخارجية لمصر ما بعد مبارك نحو «الشعبوية» ومعارضة القوى الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية، بهدف نيل استحسان الداخل المصري والخارج الإقليمي بعد فترة طويلة من تراجع الدور والفاعلية المصرية إقليمياً ودولياً. ولذا يُتوقع أن تنتهج السياسة الخارجية المصرية حيال الولاياتالمتحدة نهج نظيرتها التركية تحت حكم حزب «العدالة والتنمية». وإن كان هذا لا يعني انقطاع التواصل الاستراتيجي المصري - الأميركي، ولكنه تواصل لن يكون بالدرجة التي كان عليها أثناء فترة حكم مبارك. ثانياً: تزايد نفوذ القوى الإسلامية وبخاصة جماعة «الإخوان المسلمين» التي تصاعد نفوذها سياسياً عقب ثورة 25 يناير، وتوقع تزايده وفاعليته في عملية صنع القرار المصري الخارجي والداخلي بعد الموافقة على تأسيس حزب للجماعة (حزب الحرية والعدالة) ومع توقع فوز الجماعة بنسبة كبيرة من مقاعد البرلمان المقبل. وسيقوّض صعود القوى الإسلامية سياسياً وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين» التقارب المصري - الأميركي الذي كان سمة حكم مبارك، وذلك لرفض الإسلاميين الاعتراف بإسرائيل وعدم حسم موقفهم من العلاقات مع إسرائيل ولا معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، بالإضافة إلى علاقاتهم بقوى المقاومة المسلحة (حماس وحزب الله اللبناني) التي تُصنفها تقارير حكومية أميركية على أنها جماعات إرهابية. ولن يتخلى الإسلاميون عن مواقفهم تلك لأنها مصدر شرعيتهم وقوتهم في الشارع المصري. ثالثاً: تصاعد نفوذ قوى وحركات سياسية (بتنوعاتها الليبرالية والقومية والاشتراكية) سيكون لها عظيم الدور في صَوغ السياسة الخارجية المصرية بما ينهي تفرد مؤسسة الرئاسة والخارجية بصناعة القرار المصري خارجياً، وذلك بسبب تزايد نفوذ تلك القوى والحركات وشعبيتها في الشارع المصري، ولدورها المتوقع في البرلمان المقبل، ناهيك بالمنافسة المحتملة لعدد من أقطابها على منصب الرئيس. وهي قوى راغبة في إعادة تشكيل العلاقات المصرية - الأميركية من جانب والمصرية - الإسرائيلية من جانب آخر. رابعاً: التوجه المصري إلى إعادة تشكيل العلاقات المصرية - الإسرائيلية بعد فترة من الخنوع المصري خلال فترة حكم مبارك أمام السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية وفي المنطقة عموماً وفي مناطق النفوذ المصري بخاصة، واتخاذ القاهرة سياسات معارضة للمصلحة الإسرائيلية، والتوتر على الحدود بين مصر وإسرائيل، والاقتحام الشعبي للسفارة الإسرائيلية، واستبدال العلم المصري بالإسرائيلي، وهو الأمر الذي دفع أعضاء اللوبي الإسرائيلي داخل الولاياتالمتحدة – خصوصاً منظمة «إيباك» - إلى الضغط على صانعي القرار الأميركي لاتخاذ سياسات متشددة تجاه مصر. ويذكر أن أي تأثير سلبي في العلاقات المصرية - الإسرائيلية ينعكس على العلاقات المصرية - الأميركية سلباً أيضاً، لكون العلاقات بين القاهرةوواشنطن ثلاثية على عكس طبيعة العلاقات بين الدول التي تكون ثنائية في العموم. وهناك مقولة تصف العلاقات المصرية - الأميركية مفادها أن «الطريق إلى البيت الأبيض لابد أن يبدأ من تل أبيب». خامساً: الانفتاح المصري على قوى إقليمية تعتبرها واشنطن مناوئة لها ولمصالحها في المنطقة، وفي مقدمها إيران - إبان تولي نبيل العربي قيادة وزارة الخارجية المصرية - والعلاقات مع تركيا الحليف الأميركي المعارض لكثير من سياسات واشنطن في المنطقة. ولهذا بدأ الحديث داخل الأوساط الأكاديمية والبحثية الأميركية عن مساع مصرية لتكوين حلف ثلاثي مصري - تركي - إيراني لقيادة المنطقة، وهو الحلف الذي يُمثل ضربة للمصالح الأميركية ولدورها. وختاماً، أعادت ثورة 25 يناير إلى مصر جزءاً من قوتها الناعمة، كما أن توجه مصر نحو بناء نظام ديموقراطي سيفعّل استقلالية القرار المصري خارجياً ومع الولاياتالمتحدة خصوصاً، إذ كان غياب الديموقراطية أحد أسباب ضعف مصر في علاقاتها مع أميركا، فهذا الغياب جعل مصر أكثر انكشافاً وضعفاً في مواجهة الضغوط الأميركية التي كان يتعرض لها نظام مبارك. فأي دولة لا يمكنها إقامة علاقات مع قوى كبرى وخدمة مصالحها الوطنية إلا إذا كان ظهرها محمياً داخلياً بإجماع وطني حول المواقف التي تتخذها، وهو ما حققته ثورة 25 يناير بإحداث انفتاح سياسي حقيقي يمهّد لوفاق وطني جامع. بيد أن هذا لا يعني انقطاع العلاقات المصرية - الأميركية، فمصر ستظل حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة لاستمرار المصلحة المصرية والأميركية في التعاون الأمني والاستخباراتي، وبسبب وجود كثير من الملفات المشتركة في وقت يحتاج فيه البلدان إلى بعضهما البعض مع كثير من المنعطفات السياسية التي يمر بها البلدان، ولكنه تعاون سيختلف عن سابقه خلال فترة حكم مبارك. ويتوقع كذلك أن تشهد العلاقات بين البلدين حالة من التوتر من وقت إلى آخر، لأن الولاياتالمتحدة دولة مؤسسات، وصناعة القرار الأميركي الخارجي تتسم بالتعقيد والتشابك لتداخل الكثير من المؤسسات والأجهزة والوكالات فيها، لاسيما الكونغرس الذي فقدت مصر كثيراً من مؤيديها فيه. فقد نشهد من حين إلى آخر مشروع قرار في الكونغرس يربط المساعدات الأميركية بسياسات وإجراءات لابد أن تتخذها مصر أو مشاريع قوانين ناقدة للسياسة المصرية على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما كانت الحال في إدارتي الرئيس بوش الابن. ناهيك بدور اللوبي الإسرائيلي ذي التأثير الكبير على صانع القرار الأميركي، لاسيما (إيباك)، والساعي إلى ربط التحسن في العلاقات الأميركية - المصرية بعدد من الإجراءات والسياسات المصرية التي تحقق الأمن والمصلحة الإسرائيليين في المنطقة. * كاتب مصري