منذ انطلاقتها، قبل عقد ونصف من السنوات، وحتى اليوم، لا تزال قناة «الجزيرة» تتكئ على برنامج «الاتجاه المعاكس»، باعتباره أحد أبرز برامجها. إنه البرنامج الذي كان، ومازال، يحوز على أكبر مقدار من المشاهدين، وفق كثير من الدراسات الإحصائية والأطروحات الجامعية التي أُنجزت حول هذا البرنامج-الظاهرة، الذي أمكن له ذات وقت أن يتحول الى فتح جديد، في عالم الإعلام العربي. كثيرةٌ هي البرامج الارتكازية التي تخلَّت عنها قناة «الجزيرة»، خلال مسيرتها، والبرامج التي أوقفتها، لسبب أو لآخر. ربما أهمها وأبرزها برنامج «الرأي والرأي الآخر»، الذي يحمل عنواناً يُعتبر الشعار الرئيس للقناة، منذ انطلاقتها، والذي لا تكفّ عن التباهي به وتكراره (أي الشعار)، عشرات المرات يومياً. وحده برنامج «الاتجاه المعاكس»، استمرّ طيلة هذه السنوات، حتى وإن أصابه انخفاض في مستوى الأداء حيناً، وضعف في المضمون حيناً، أو انفضاض الجمهور عنه، في حين آخر، وانحداره إلى مستوى التكرار والاجترار المملّين، أحياناً. استمرّ البرنامج. نعم! بل إن المثير في الأمر، أن هذا البرنامج الذي قام بالتغييرات الشاملة، على مستوى الشكل، عبر تغيير حقيبة «الغرافيك» الخاصة به، كاملة، احتفظ بجوهره، وطبيعته، وطريقته، من دون أدنى تغيير! لا يمكن فهم استمرار برنامج «الاتجاه المعاكس»، طيلة عقد ونصف من السنوات، إلا باعتبار أن شيئاً لم يتغيّر، فالبرنامج الذي من المُفترض أنه جاء ليثير حالة حوار صريح ومُعلن، على الهواء مباشرة، دونما رقيب، والذي جاء ليعلِّم المشاهدين، بل والساسة العرب قبلهم، أصول الحوار، ومقارعة الحُجّة بالحُجّة، والانتقال من حال «صراخ الديكة» وتبادل الشتائم، والمسك بتلابيب بعضهم بعضاً، إلى مستوى الحوار الحضاري... البرنامج المُفترض أنه قام أصلاً من أجل تعليم العرب أصول الحوار، بدا كأنه استمرأ اللعبة، وغرق فيها... كأنما البرنامج، والقناة بالتالي، يقعان في الحفرة، ذاتها، التي أرادا ردمها. ما معنى أن يبقى المشاهد والسياسي العربي، بعد عقد ونصف من السنوات، بحاجة لبرنامج من طراز «الاتجاه المعاكس»؟ ألم يتعلّم (المشاهد، والسياسي العربي) طيلة هذه السنوات، وبعد مئات الحلقات منه، أسس الحوار الحضاري وأصوله، على الأقل إلى درجة يمكن اعتبار طريقة «الاتجاه المعاكس» من متروكات الماضي، الذي ينبغي أنه تجاوزه؟ إذا كان استمرار أيّ برنامج لسنوات طويلة، هو واحد من مؤشرات نجاحه، وتحقيقه لأهدافه، فمما لاشك فيه، أن استمرار برنامج «الاتجاه المعاكس»، هو على النقيض من ذلك. من المنطقي أن برنامجاً من طرازه تنتهي صلاحيته كلما اقترب من تحقيق أهدافه، وكلما تقدَّم على طريق تحقيق مبتغاه! إنه «اتجاه معاكس» لنفسه أولاً. وأيضاً، أنه برنامج يروم فضح الحالة التي يقدّمها ورفضها، حالة الصراخ بدل الحوار، والاشتباك بدل النقاش، ويسعى بالتالي إلى التخلّص منها في الواقع العربي. عندما يتمكّن برنامج «الاتجاه معاكس» من تحقيق مهماته، وأهداف القناة ذاتها، في إظهار «الرأي والرأي الآخر» على شاشة واحدة، في شكل متوازن وعاقل، عندها تليق به استراحة المحارب، وقد انتصر! أما استمراره، فما هو إلا دليل على أننا ما زلنا في «الاتجاه المعاكس» للحضارة!