مبكراً كان الوقت الذي رمت فيه قناة «الجزيرة» حجراً ثقيلاً في مستنقع الإعلام العربي الراكد في طمأنينه. يبدو أنه لم يكن يساوره الشك بصددها، إذ كان الإعلام العربي برمّته يومها، يتكئ على جدران وزارات الإعلام التابعة لأنظمة بدت لوهلة أنها راسخة غير قابلة للمنافسة، ولا لسحب البساط من تحت أقدامها! مبكراً كان الوقت، ففي عام 1996، لم يكن قد مرّت إلا سنوات على انطلاقة البث الفضائي العربي، الذي بدا لوهلة أولى مساحة لكل شيء، ما عدا السياسة! كل الحكايات التي كانت تتناول البثّ الفضائي العربي حينها، ذهبت نحو أنه عالم من المتعة والتسلية السحرية، بعيداً من أعين الرقابات الرسمية. جاءت «الجزيرة»، منذ البدء، من خارج هذا النسق تماماً، لتمتحن نفسها، وتثبت تميّزها، على مستويين: الأول أنها دخلت في حيز السياسة كلياً، ولم تكتفِ بنشرات الأخبار التي كان يقدمها غيرها من القنوات على «حذر». والآخر أنها قطعت علاقتها مع هذا ال «حذر»، من حيث أمكنها الدخول في المحظور من الكلام، والممتنع عن التناول، طيلة خمسين سنة. كانت فكرة باذخة في مغامرتها، من دون شك... مغامرة الرهان على أن العرب، بحاجة لسماع غير ما يُقال، ورؤية أشياء أخرى، مما لم يُعرض عليهم من الصور. لقد أرادت قولاً جديداً، وصورة جديدة. نجحت هذه المغامرة، وأصاب ذاك الرهان، في الكثير منه. على رأس عقد ونصف من السنوات، انصرمت من عمرها، يمكن القول إن «الجزيرة» نجحت في الكثير مما أرادت. بل لعلها نجحت في الكثير مما لم ترد! لا يمكن لعاقل التكهّن بأن السيناريو الذي جرى، هو ذاك الذي كان موضوعاً في تلك اللحظات المبكرة، فالقناة التي تضع «بيضها» كله في سلة «السياسة»، بخاصة العربية منها، كان عليها إدراك أنها ستبقى محكومة لطبيعة الوعي والحراك السياسي العربي، الذي لعله قطع خلال هذا العقد والنصف من السنوات أكثر مما فعله خلال نصف قرن، منذ زمن الاستقلالات العربية. وللغرابة، فإن القناة التي أطلقت برنامجاً ارتكازياً لها، من طراز «الاتجاه المعاكس»، والذي كان أحد روافعها في أوساط المشاهدين، تجد نفسها اليوم في مهبّ حزمة من «الاتجاهات المعاكسة» التي تتناوشها من كل حدب وصوب، إلى درجة اتهامها هي بالتضليل... بل كثيراً ما وجدت نفسها في خضم حرب تقنية، لم تتوقف عند حدود التشويش، ووصلت حدّ المنع، وإقفال المكاتب. حال «الجزيرة» اليوم، على بوابة سنة جديدة من تجربتها، يعيدنا مباشرة إلى أسئلتها المُعلَّقة... ربما يمكن القول إنها ساهمت في تغيير صورة الإعلام العربي، وإنها تمكّنت من استقطاب ملايين المشاهدين... لكن السؤال الأهم: ما الذي بدّلته في العقلية العربية؟