هبت نفحات الحرم على الشيخ علي الطنطاوي في بلاد الشام حين كان في ريعان الشباب، فحملته على القيام برحلة إلى الحج عام 1934 على أولى المركبات التي حملت الحجاج من دمشق إلى الحجاز في رحلة استغرقت 58 يوماً، لا تسأل عن طولها ومعاناتها ومشقتها الممزوجة بالمتعة والشوق إلى رحاب الحرمين. يقول عنها الطنطاوي: «كانت هذه الرحلة مثلاً مفرداً في - باب التنظيم - أقصد عدم التنظيم، أي أنها المثل الكامل للفوضى، فيها نوادر لو لا أنها واقعة وأنني كنت أحد أبطالها لما صدقتها». ويذكر أن الرحلة تأجلت عن موعدها المحدد 10 أيام لسبب لا يخطر على بال أحدكم: «وهو أن تطول لحاهم ليذهبوا إلى مكة بلحى معفاة، لأنهم سمعوا أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمسك من كان حليق الوجه، لهذا أعفوها، ولم يكن السفر في الموعد فضاقوا ذرعاً باللحى التي ربوها لغير الله». حكى الطنطاوي بأسلوبه الماتع أن رفقاء الرحلة لم يكونوا يسيرون على الحرير ويتقلبون في نعيم الراحة والأنس والأمان، بل كان يعتسفون البوادي ويسيرون في أرض يبصرون أولها ولا يدرون إلى أين ينتهي بهم آخرها، يخرجون من مركباتهم ويربطون الحبال بأكتافهم وأعناقهم ليخرجون المركبات الغارقة فيها، وقل منهم الزاد حتى أشرفوا على الهلاك. لم يتنفس رفقاء الرحلة الصعداء حتى اطمأنوا أنهم داخل الأراضي السعودية، إذ قال الطنطاوي: «بعد أن علمت أننا وصلنا إلى دار الأمان، إلى البلد الذي لم تدنس ثراه أقدام مستعمر كافر، البلد الذي خلق حراً، وعاش حراً وبقي حراً، فتجدد نشاطنا فتقدمنا مطمئنين على وعورة الأرض وكثرة الرمال، نعلو نشازاً من الأرض ونهبط غائراً، حتى بدت لنا خيام مخفر ترفرف عليه راية التوحيد وتحتها سيفان، فاستقبلنا رجال المخفر وأجلسونا على أفضل ما عندهم من أثاث، وبذلوا لنا أكثر ما يقدرون عليه من إكرام وقدموا القهوة، ولم ينقطع ترحيبهم بنا». وصف الطنطاوي أسلوب الأكل في البادية وصفاً بديعاً، إذ يقول: «يأخذون قبضة الرز واللحم فيديرونها حتى تصير كالكرة، ثم يقذفونها في حلوقهم فتقع في المرمى»، وحاول مجاراتهم ولكنه لم يفلح وكاد أن يخنق لولا مساعدة أحد «النشامى»، الذي أسعفه بطبق خالص من السمن. وصل الركب إلى القريات ومنها إلى تبوك والعلا، وقدم الرحالة شرحاً وافياً للبادية التي مروا بها وأمضوا فيها 20 يوماً، حتى قيل لهم تلك هي جبال المدينةالمنورة فوثب الرحالة وثبة تطاير منها اليأس والخمول عن عاتقه، حتى قال: «أحسست كأن قد صب في أعصابي عزم أمة وقوة جيش، وجعلت أقفز وأصرخ لا أعي ما أنا فاعل». لم يدرك مدى الفرحة التي غمرته عندما قال لهم الدليل: «هذا هو جبل أحد». وبعد أن اغتسل رجال القافلة وبدلوا ثيابهم توجهوا إلى المدينةالمنورة، التي قال عنها الطنطاوي: «بدت لنا كصفحة الكف يحف بها النخيل وتكتنفها الحرار وتقوم في وسطها القبة الخضراء، التي يثوي تحتها جسد السيد الحبيب، وتكشفت لنا دنيا كلها خير وحقيقة وجمال، وعالم كله مجد وفضيلة وجلال... كنت لا أرى ما حولي لفرط ما أحس جيشان العواطف في نفسي». ووصف المشاعر الدفاقة وخفقان القلوب وسكب العبرات حين قال: «ولئن كان في الأرض بقعة يشعر فيها المرء أنه في الجنة حقاً، فهي الحرم النبوي». ومن ثم تحرك الركب صوب مكةالمكرمة ووقفت القافلة في رابغ، ومن ثم واصلت سيرها حتى وصلت جدة في أربعة أيام، ومنها توجهوا إلى البلد الأمين، مروراً ببحرة والشميسي، وقال: «هل تصدقون أننا قطعنا الطريق بين جدةومكة في 12 ساعة؟ هل تصدقون أنه خرج معنا من جدة أناس يركبون الحمير، فسبقت المركبة الحمار بساعة واحدة فقط»؟ ونزل الركب بدار الضيافة بأجياد، ولم يكن بمكة يومها كهرباء إلا ما كان في الحرم وهي مصابيح صغيرة. وذكر الرحالة أن من المشاهد المألوفة أنه ما إن يسمع الأذان حتى يترك البائعون دكاكينهم مفتوحة وكذلك الصرافون، وأمامهم أكوام الريالات والعملات يتركونها، ويذهبون إلى المسجد فلا يمس ما يتركونه أحد. وتحدث الرحالة عن لقائه بالملك عبدالعزيز، الذي وصفه بأنه أوتي بسطة في الجسم، فهو طويل عريض المنكبين، إن مشى مع الناس ظهر كأنه راكب وهم مشاة، وكان أكله مع ذلك قليلاً جداً، كان رجلاً من أفذاذ الرجال، وأسهب في وصفه. ومن ثم يصف الطنطاوي مشهد الحجيج في منى وعرفة ومزدلفة، ومن ثم مغادرة القافلة مكةالمكرمة بعد أداء مناسك الحج عائدة إلى بلادها، مروراً بالمدنية المنورة حتى وصلت إلى دمشق.