«وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق». لئن بقي بيت الشعر هذا، معبراً عن ما بات يسمى بالثورات الكلاسيكية التي شهدتها المنطقة خلال القرن الماضي وهي ثورات شكّل العنف مدماك نهوضها وعنوان سيرورتها، يبقى أن بيت الشعر هذا لا يزال ساري المفعول مع ما تشهده البلدان العربية اليوم من ثورات. ذاك أن ثورات الربيع العربي لم تأت كلها بيضاً تماماً كما لم تقطع مع ثقافة «القرابين البشرية» التي لطالما تباهى بها العقل العربي لدرجة تغني بلد مثل الجزائر بأنه بلد المليون شهيد. ولعل في الشعار الذي يردده المعتصمون اليمنيون في الساحات «كلما زدنا شهيداً اهتز عرش الطاغية» صدى لبيت الشعر ذاك، ودلالة على مدى انصهار الحركة الاحتجاجية بالثقافة السياسية التقليدية. والحقيقة أن هاجس تعميد الثورة بالدم يلقي بظلاله على وعي الاجيال الجديدة وسلوكها التي خرجت الى الساحات والشوارع تتظاهر «سلمياً» لإسقاط أنظمة حكم عتيقة، تسلمت السلطة بطرق غير سلمية. فهذه الاجيال التي يعوّل عليها في تشكيل رافعة تأسيسية لثقافة سياسية نقيضة لثقافة العنف والانقلابات العسكرية لا تبدو مهيأة تماماً للقطع مع تراث العنف والاستخفاف بحياة الانسان. وهو تحد يومي يواجه مسيرة التغيير في المنطقة، حتى في الدول التي انجزت ثورتها مبكراً مثل مصر وتونس. وفي بلد كاليمن يشهد ثورة متفاوتة الدموية، تساءل كثيرون عقب احداث «ماسبيرو» في القاهرة عن سبب عدم توجه المحتجين الاقباط الى ميدان التحرير بدلاً من مبنى التلفزيون, الامر الذي كان من شأنه تلافي الدخول في احتكاك وبالتالي تجنب وقوع عنف. لكن يبدو أن التمثيل الرمزي للدم لا يزال طقساً راسخاً لدى الشارع العربي باختلاف بلدانه عند محاولته التعبير عن أي قضايا مطلبية وعادلة. ويبدو أيضاً أن البعض لا يستطيع استيعاب أو قبول حدوث تحول حقيقي من دون دماء وقرابين. لذلك تقاس «أهمية» القضية وضرورتها بقدر الدماء والشهداء الذين سقطوا لأجلها. وباستثناء حادثة قتل الرئيس الليبي معمر القذافي وما انطوت عليه من دلالات لجهة هيمنة ثقافة الدم والانتقام خارج الأطر القانونية، تظهر تجارب الاحتجاج المستمرة في بعض الدول العربية مثل سورية واليمن مدى شيوع مفهوم بذل الارواح في وعي المحتجين أنفسهم في شكل يربط معنى الثورة بالتضحية. والأكثر إيلاماً في هذا المشهد أنه اضافة الى الدم الغزير الذي تسببت في اراقته الانظمة الحاكمة في قمعها للتظاهرات السلمية، ثمة دم يراق بفعل تكريس ثقاقة «القرابين البشرية» في الحركة الاحتجاجية وتمجيد تلك الثقافة لعجز الشبان المحتجين عن إيجاد ترجمة واقعية لمفهوم التغيير السلمي في غياب أي تقدير لقيمة الحياة. لذا نرى في ساحات الاحتجاج اليوم صورة الشهيد بما هو معادل رمزي للثورة و»ايقونة» لها تتفوق على أي شعار آخر. ولم يعد خافياً ارتفاع أعداد الضحايا بالتزامن مع احداث معينة مثل مناقشة مجلس الامن للملف اليمني على غرار ما حدث الشهر الماضي في صنعاء من نزول مسيرات الى ما يعرف بخطوط التماس، ما أدى الى سقوط عشرات القتلى والجرحى، علماً أن منظمي هذه المسيرات والمشاركين فيها يدركون جيداً أن انجاز هدف حقيقي، غير الشهادة طبعاً، غير مقدور عليه في الوقت الراهن وبهذه الصيغة. وسبق للمحتجين في ساحة التغيير في صنعاء أن سيطروا، بمعونة العسكريين الموالين للثورة، على بعض نقاط التماس مثل «دوار كنتاكي» ثم انسحبوا منها لاحقا في اطار ما أطلق عليه «خطوات التهدئة». ويتساءل ناشطون عن جدوى لعبة شد الحبال تلك والتي صارت كلفتها البشرية باهظة ولا تحقق شيئاً. ويرى الصحافي والناشط نبيل الصوفي أن»المحرضين على الاقتحام والزحف، هم شركاء في جرائم القتل التي وقع ضحيتها كثيرون منهم غير مسلحين. بل عليهم المسؤولية الأكبر في تفخيخ الخطاب الثوري بعبارات الموت والتسابق عليه». وعلى رغم مرور أشهر عدة على الدعوة الى الزحف الى القصر الرئاسي غير أن شيئاً من هذا لم يتحقق والحاصل أن إمكان نجاح الزحف بات معدوماً حتى عسكرياً خصوصاً في ضوء ما يظهر من تكافؤ قوة بين الطرفين. وتشيع في أوساط اليمنيين ثقافة التضحية ونزعة الاندفاع حتى الموت، خصوصاً في أجواء الحماسة أو حينما يتعلق الأمر بقضايا كبرى أو «مقدسة» برأيهم. وتنتشر في عدن الجنوبية شعارات يكتبها شبان ناشطون في الحراك الجنوبي السلمي على الجدران تعلي من قيمة الدولة الجنوبية السابقة وتدعو الى التضحية بكل شيء في سبيلها حتى تبادل بعضهم على موقع «فايسبوك» صورة قنبلة كتب عليها «بهذه نتحرر» كما كتبت على الجدران عبارات من قبيل «نحب الموت بقدر ما نحب الحياة». ومعلوم أن غالبية الاتجاهات الفكرية والسياسية التي تسود المنطقة تنهل من أيديولوجيا تحتفي بالشهادة وتحض عليها، وقلما مثل حزب ما ثقافة السلام الذي ينظر اليه على أنه خنوع وانهزام. وتكرس مناهج التعليم التضحية بالارواح والبذل بها وهو أمر قطفت ثماره الجماعات الارهابية في مرحلة ما. وبعد احدث 11 أيلول (سبتمبر) سعت السلطات الى تخفيف المنهج التعليمي من المواد التي تحض على كراهية «اليهود والنصارى» أو تحض على قتالهم غير أن لا شيء أنجز على الارض لتكريس ثقافة التسامح كما لا مراجعات أجريت في المواد المدرسية التي تقلل من قيمة الحياة.