تزداد آسيا ثراءً، ويساهم النجاح الاقتصادي وارتفاع متوسط حياة سكانها في تعزيز التوقعات الاجتماعية، في حين يبدو تطوير أنظمة الحماية الاجتماعية أمراً ملحاً. ونما الاقتصاد الصيني خلال العقود الثلاث الماضية خمسة أضعاف، ويُتوقّع أن تصبح الهند الاقتصاد الثالث الأكبر حجماً في العالم بحلول عام 2050. ويساهم تراجع الخصوبة وارتفاع معدلات الأعمار في تفاقم العجز الديموغرافي. ومع زيادة متوسط الحياة، يُتوقع أن تشهد معدلات الاعتماد على الغير، أي عدد الآسيويين غير العاملين، قفزة حادة. وتضم الصين (تعتمد سياسة الطفل الواحد) والهند، نحو 40 في المئة من سكان العالم الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة. وتستدعي ديناميكية سكانية كهذه، إصلاحاً لتمويل التقاعد، خصوصاً في آسيا حيث تفتقر أنظمة التقاعد إلى انتظام في التغطية واستدامة مالية. ويعتبَر القطاع العام، بالنسبة إلى العامل، أفضل الأماكن للحصول على دخل تقاعدي، فالقطاع الخاص الرسمي يؤمّن تغطية ضئيلة، بينما لا يؤمّن القطاع الخاص غير الرسمي أي تغطية. ولا توجد أي حماية في المناطق الريفية، ويكون النسيان مصير الفقراء والضعفاء. وفي الصين، يحظى عاملو المدن داخل المؤسسات المملوكة للحكومة بتغطية، أما في الهند فلا تزيد نسبة العاملين الذين يتمتعون بالتغطية عن 10 في المئة. وتعلو هذه النسبة في الاقتصادات الآسيوية الأكثر اعتماداً على الصناعة، لكنها لا تزال أقل من النسب المسجلة في الدول ذات مستويات الدخل المماثلة لكل فرد. وستؤدي سرعة نمو الطبقة الوسطى وتسارع وتيرة التمدن، مع انتقال 900 مليون نسمة إلى المدن الآسيوية خلال السنين ال 20 المقبلة، وفق كتابات أكاديمية، إلى ارتفاع نفقات الضمان الاجتماعي. وقد تنجح آسيا في رفع مستويات تغطيتها للحماية الاجتماعية من دون تكرار أخطاء الاقتصادات المتقدّمة، إذ يعرّض ارتفاع متوسط الحياة أنظمة التقاعد إلى ضغوط لا تُحتمَل، في حين أن الميثاق الاجتماعي بات رهينة لدى المتقاعدين، الذين يشكلون الآن نسبة كبيرة من الناخبين، لكن المحيط السياسي يخوّل الحكومات الآسيوية التطرّق بنجاح إلى التحدي الديموغرافي الذي ستواجهه مستقبلاً. وتشكّل الحسابات المالية الجيدة ومعدلات الادخار المرتفعة، نقطة انطلاق ممتازة لإصلاح أنظمة الضمان الاجتماعي، كما يساهم الانهماك السليم في الاستدامة المالية والاستعداد لتعزيز الخدمات التي يؤمّنها القطاع الخاص، في تفعيل العناصر المطلوبة كشروط مسبقة لإنشاء أنظمة تقاعد فاعلة. ومن بين التطورات المحتملة، توسيع نطاق أنظمة التقاعد الآسيوية لتشمل عدداً أكبر من الأشخاص، إلا أن الإبقاء على الاستدامة المالية يتطلب خفض مخصصات التقاعد. وتقوم حالياً معظم رواتب التقاعد في القطاع العام على «أنظمة ذات منافع محددة»، يموّلها صاحب العمل والموظف، وتحدَّد مخصصات التقاعد مسبقاً وتُدفع بانتظام حتى وفاة المنتفع. ونظراً إلى تسديد رواتب التقاعد على أساس «الدفع الفوري عند الإحالة إلى التقاعد»، تتسبّب اليد العاملة المعمّرة بثغور تمويلية كبرى، معرقلة جهود التوسع. ويرجَّح أن تتبنى معظم الحكومات، خلال العقد المقبل، «أنظمة مساهمة محددة»، تقوم على مساهمة رب العمل والموظف، بحيث لا يحدَّد راتب التقاعد الشهري مسبقاً، بل يعتمد على عائدات السوق وعلى المبالغ التي راكمها العامل، ولذلك تموَّل هذه الأنظمة بالكامل. وقد يقرّر صناع السياسات، استناداً إلى أساس الضمان الاجتماعي ومدى التوافر المالي، تحديد الحد الأقصى للمخصصات عند مبلغ يعتبر ضرورياً لتجنيب الفقر، خصوصاً في أوساط المعمرين. ويتوقَّع أن تنال أنظمة الادخار الخاصة، غير المتعلقة بمقر العمل، تشجيعاً، ما يعني أن التغطية ستشمل عدداً أكبر من المواطنين، إنما بمخصصات أقل. ثانياً، ستشجع زيادة تغطية التقاعد، الاستهلاك وتوجّه النمو، إذ أظهرت تجربة الدول المنتمية إلى منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي خلال السنين ال 20 الماضية، أن ارتفاع النفقات الاجتماعية قد يساهم في شكل ملحوظ في زيادة استهلاك الأسر عبر تقليص معدلات الادخار. ويُعزى تدني مستويات الاستهلاك في آسيا، الذي يشكّل 37 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في الصين مقارنة بأكثر من 50 في المئة في الاقتصادات المتقدّمة، إلى ارتفاع المدخرات الوقائية الناتجة عن نقص الحماية الاجتماعية لضرورات الصحة والشيخوخة، إلى جانب التكلفة الباهظة للتعليم العالي. ويرى صندوق النقد الدولي أن ارتفاعاً مستمراً للنفقات العامة في الصين بنسبة واحد في المئة من إجمالي الناتج المحلي، في مجالات التقاعد والصحة والتعليم، سيزيد استهلاك الأسر بما نسبته 1.25 في المئة من الناتج المحلي. ومع الوقت، سيصبح الطلب المحلي، الذي يحفزه ارتفاع النفقات الاجتماعية الحكومية، أكثر دعماً لنمو الاقتصاد. ويتوقَّع أن تحظى هكذا إصلاحات بدعم قوي نتيجة عزم صانعي السياسات على تقليص مستويات اعتمادهم على الصادرات. ثالثاً، تسجَّل فرص أعمال واضحة في القطاع الخاص، ومن ضمن إطار خاضع لإدارة حكومية، سيواجه مقدمو الخدمات الاجتماعية في القطاع الخاص سوقاً مزدهراً. وسبق للمستثمرين أن اتخذوا لأنفسهم مراكز تماشياً مع ذلك. وسيشهد القطاع الخاص، خلال العقد المقبل، زيادة ملحوظة في مجال تأمين الخدمات المالية والحماية الاجتماعية والخدمات الاجتماعية، على غرار الصحة والتعليم. ومع ارتفاع عدد المواطنين الذي يستفيدون من نظام الحماية الاجتماعية الأساسي، ستشهد الشركات القادرة على تأمين تغطية متكاملة عبر تأمين مخصصات إضافية، كالتأمين الخاص على الحياة والصحة والتقاعد، نمواً. وسيلاحظ مديرو الأصول ارتفاعاً في الطلب على خدماتهم، مع احتياج صناديق التقاعد إلى عائدات أعلى وإلى مزيد من التنويع في استثماراتهم. ويُشار إلى أن الطلب المحلي في آسيا يؤمّن فرصاً كبيرة، كما تظهر المؤشرات نمواً مستداماً في مجالات الطاقة والبنية التحتية والعقارات المصممة للطبقة الوسطى والخدمات المصرفية والسلع الاستهلاكية. * رئيس الخبراء الاقتصاديين، عضو الفريق الإداري ولجنة الاستثمار في «الشركة الكويتية - الصينية الاستثمارية»