يحاول التشكيلي العراقي المقيم في لبنان حيدر آل صفّار، أن يقدّم كل ما هو غير مألوف في أعماله التي تجمع تناقضات عدّة، ولكنها تخدم الفكرة التي يصبو إليها. من خلال الكولاج، هذا الفن الذي نشأ في الصين عند اختراع الورق، يقدّم آل صفار متعة مضاعفة للناظر إلى اللوحة، وإغراء لما تحويه من إبداع في التركيب. والكولاج فن بصري يعتمد على قص الكثير من المواد ولصقها معاً، وبالتالي تكوين شكل جديد، مع العلم أن استخدام هذه التقنية كان له تأثيره الجذري في فن رسم اللوحات الزيتية في القرن العشرين. أم تُرضِع طفلها وملامح البؤس ظاهرة على وجهها، وفي خلفية اللوحة (قديسة الفقر) قصاصات ورق من جريدة لبنانية قديمة فيها دعوة إلى إقالة رئيس الجمهورية، وعنوان عريض: «بيروت تتظاهر غداً ضد الإرهاب والطغيان». ثمة شيء مشترك ما بين بؤس الأم ونظرتها الملتبسة، وبين الدعوة إلى التظاهر والمطالبة بإقالة الرئيس. هي إسقاطات ربما تصلح لانتقاد الواقع السياسي الحالي في أي بلد، وقد تكون اللوحة مستوحاة من الربيع العربي. في لوحة أخرى (أدما)، وجه ناعم ينبض بالأنوثة، ونظرة تفاؤلية نحو مستقبل غامض، تخترقها أبيات شعر. فيما لوحة «الأرض المباركة» تحتضن تاجر المخدرات الشهير نوح وبجانبه مقاتلون بأسلحة رشاشة تُُزيّنها نبتة الحشيشة، وخطوط هندسية تخترق اللوحة في دلالة على الموقع الجغرافي. ويضم المعرض الذي احتضنه غاليري «مختبر الفن» لإبراهيم سماحة في منتصف درج الجميزة (بيروت)، كولاجاً وأعمالاً رقمية، يغلب عليها طابع الكاليغرافيا والبورتريه. وتحلق غالبية الأعمال خارج إطار اللغة والمكان والزمان، لتضفي شعوراً من الفوضى العارمة، خلف الوجوه الوادعة التي اختارها الفنان أساساً للوحاته، مجرداً إياها من صفاتها البشرية، ومعيداً تركيبها على طريقته. يقول آل صفار: «لأكوّن لوحة أنطلق من العدم والعبث وربما من الملل والرتابة القاتلة في دوامة مستمرة من سنوات طوال من الغربة والنفي في اللاوطن، متسكعاً في مدن عربية وأوروبية وأميركية. حالة المنفى (Diaspora) هي ألم جميل، جذاب لا راحة ولا سكينة فيها، هي دفء في سرير في بروكسيل أو كوبنهاغن يتخلله أرق أزلي. ولكسر رتابة الزمن الذي لا ينفك عن المضي ببطء أسطوري، كان القلم والريشة الملجأ شبه الوحيد - الوطن الافتراضي». وتعبّر لوحات الفنان العراقي عن الإنسان المعاصر في عذاباته وملذاته، في طهره ودنسه، في جنونه وفي حكمته، وكل تلك الطبقات التي تخفي خلالها عُقداً بعمر الكون، ومعاناة بحجم الجبال. لماذا تتكوّن لوحاتك من طبقات عدّة، يُجيب آل صفار: «الفرد هو عبارة عن تجارب فاشلة وناجحة ومعاناة ورغبات وانتصارات وصراعات وتحديات ومساومات وإحباطات وخيبات تكوّن طبقات تعزله عن ناظره. من منا يستطيع أن يقول إنه يعرف الناس جيداً؟! الطبقات هي الشخصيات الهائلة التي يتكوّن منها الإنسان المعاصر خلال مسيرة حياته. لوحتي هي عالم من الفوضى الجمالية، خلفيتها بورتريهات تغيب تحت طبقات عدة من الموروثات والحياة اليومية والأحلام العادية وغير العادية». وكما الألوان الزيتية والمائية، يستعمل آل صفار القص واللصق والصور والخطوط والكاليغرافيا للتعبير عمّا يدور في رأسه، فكل فكرة لها أدوات وسيطة لتظهر أمام الناظر. ويقسم معرضه في بيروت إلى قسمين: كولاج يدوي وكولاج رقمي، أو ما يعرف بالجيكله (Giclee) أو الطباعة الأرشيفية (Archival Prints). ويرى آل صفار أن النص أداة وسيطة من الأدوات التي تكوِّن اللوحة، ويتحرك هنا النص وفق منظومة اللون والمؤثرات، وينتمي إلى اللوحة ليطرح الأسئلة أو يزيد الأمر إبهاماً ورمزية. فالمشاركة مع المتلقي أمر مهم والنص يسهّل هذه العملية. ثمة فوضى وعبثية، وحزن أحياناً في بعض أعماله، بيد أنه دائم البحث عن الصفاء والسكينة مدركاً أنهما بالنسبة إليه عملة نادرة. فالتوق إلى وطن المخيّلة بات مستحيلاً وهذا أمر محزن، أما العبثية فهي مذهب فكري إبداعي تبناه في حياته، وفي طريقة تعبيره كتابة كانت أو إنتاجاً بصرياً على حد قوله. ويشير إلى أنه في حالة اختبار فوضوي، وهذه أجمل الحالات التي يمر بها ويسميها الحزن الجميل. ولا يهتم أين ينتج العمل، إذ يختلط الواقع بالحلم، فالثقافات بالنسبة إليه كتلة متمازجة في تآلف عبثي، والماضي والحاضر يبدوان كلحظة واحدة. ولد حيدر آل صفّار في بغداد عام 1972 وغادرها في سن السادسة قسراً مع عائلته إلى لبنان لينضم إلى قافلة الشتات العربي في بلاد عربية ومن ثم غربية. في رحلة اللااستقرار، درس الأدب واللغة البصرية، وتبعثر بين تجارب عدة، وما لبث أن انتقل إلى الكتابة وخاض التجربة التجريدية كتابة وتصويراً وفوضى بصرية، تحمل بين طيات مواضيعها الكثير من القهر البشري والتهميش الاجتماعي والهوية المفقودة.