يعرف أحمد صبري أبو الفتوح، الروائي المصري، تماماً موطئ قدمه روائياً، ويدرك أن الثورة، بل لنقل الثورات العربية، لم تكتمل بعد ولم تحصل على فصل مستقل لها في التاريخ. ولا يقدر على مقاومة مشهد الربيع العربي إلا روائي يعرف أن الخوض في المشهد ومحاولة إعادة سرده الآن لا يعني سوى منافسة خاسرة لن تكون في مصلحة العمل لأن المشهد بمعطياته والتباساته كافة في الواقع يستعصي على السرد ويقاومه فيخرج السرد باهتاً فاقداً كلَّ أبعاد الخيال ومتراجعاً عن الحدث الكبير. في «أجندة سيد الأهل» - أحدث أعمال أبو الفتوح - قرر الكاتب ألا يقترب من حدث الثورة المصرية بالإضافة أو الحذف أو الانتقاء، بل قام بسرد المسكوت عنه منذ البداية: الثورة المضادة. لكل ثورة اندلعت في العالم العربي ثورتها المضادة، التي ترتكز على نماذج صنعها نظام مستبد يوظف الآليات نفسها ويبني التحالفات نفسها. من هنا يمكن نماذج رواية «أجندة سيد الأهل» أن تخرج من المحلية المصرية لتفسر كيفية صناعة الثورة المضادة في المنطقة العربية. يبدو الكاتب واعياً أنه يتناول أحداثاً شاركت فيها الملايين، فلم يكن له أن يتحكم في السرد بصوته ويتملك ناصية الحكي كاملاً، فكان أن أفسح للقارئ دوراً كبيراً ثقة فيه واعتماداً على المعرفة المشتركة، وهو ما يبرر تقسيم الفصول طبقاً لأسماء شخصيات (ليست سوى نماذج) أو تواريخ بعينها يعرف القارئ ما حدث فيها. فيبدأ مثلاً الفصل الأول بتاريخ 27 يناير وتنتهي الرواية في 2 فبراير. لا يصور الكاتب ما حدث في ميدان التحرير في هذه الفترة لكنه يتناول الثورة المضادة التي اعتمدت على «البلطجية» (يسمون الشبيحة في سورية)، ولتصوير ذلك كان لا بد أن يخوض في سيرة البلطجى ومستأجره، السيد والتابع، الجلاد والضحية، فكانت سيرة فصل أسود من تاريخ الوطن. كأن الفترة الوجيزة التي لم تتجاوز سبعة أيام استدعت حكي عقود من التاريخ الشخصي والعام لتلوح إمكانية تفسير ثورة مضادة للحرية والكرامة. أشخاص وثورة «أجندة سيد الأهل» رواية شخوص وحيوات تقاطعت مع اندلاع الثورة، مسألة توقيت وصدفة لم تكن في مصلحة رفاعة صابر سيد الأهل. بدأ الأمر باعتقاله في شكل غير قانوني وانتهى الأمر بقتله في شكل غير قانوني، كما بدأت الرواية بعمار النجدي الشهير بتايسون وانتهت به وهو يطعن رفاعة. لم يكن خروج رفاعة من قبو التعذيب الذي قضى فيه ستة أشهر ثم مقتله على يد رفيق التعذيب تايسون إلا نتيجة واحدة لحزمة من التحالفات الدنيئة التي جاءت الثورة ضد مصلحتها وضد وجودها ذاته. ومن هذه النقطة الزمنية أي 27 يناير تقرر هذه التحالفات أن خروج كل من تم القضاء على كرامتهم وإبادة إنسانيتهم في أقبية التعذيب هو الحل الأمثل لمواجهة الثوار. ما يحدث تحت الأرض في دهاليز الأروقة «الأمنية» يكفي لإنتاج إنسان (إذا جازت التسمية) مسخ، لم يعد لديه ما يبقى عليه في ذاته أو في الآخرين لأنه فقد كل شيء ولم يعد يعرف سوى الجلاد. بهذا المعنى يتحول نموذج البلطجي من أمثال تايسون، اللنش، سيد القماش، تيمور الناعم، الأعور، إلى ضحية بكل معنى الكلمة. تقع هذه الضحية في يد تحالف لا يرحم: صفوت البيومي الذي يمثل رأس المال القائم على تجارة المخدرات، الشيخ أبو داود الجهيني الذي يمثل سلطة الكلمة الزائفة، وكل جلادي الأمن المسؤولين عن تحويل المتهم إلى مسخ بشري فاقد كلَّ المقومات الإنسانية مثل اللواء عاصم الإمام والرائد مجدي الحسيني. ومن باب التعاقد الضمني بين الكاتب والقارئ يصبح من الواضح أن هذا التحالف يخضع لمن هو أعلى منه سلطة وبطشاً. البلطجي الذي ينفذ مخطط الثورة المضادة ليس إلا نتيجة شكلية، قشرة خارجية تخفي طبقات من الفساد والتآمر والفجور الكامل. لا يسقط الكاتب في الفخ الشائع الذي يرسم ثنائية الطيب والشرير. فإذا كان البلطجي ضحية جلادي التعذيب فالجلاد أيضاً ضحية أسباب حياتية ومسارات نفسية لم يكن لها سوى أن تتوجه إلى قهر الآخر وسحقه. وبتفسير الماضي الحياتي والمجتمعي لقيادات التحالف التآمري يتضح أن الانتقام يبني لنفسه تراتبية نفسية مفهومة، فكل مستوى في التحالف يود الانتقام من قاهره، ولكل مستوى الأجندة الخاصة به التي يتم تنفيذها في أغلب الأحوال ما عدا أجندة رفاعة صابر سيد الأهل الذي توفي والده العامل اليساري مبكراً تاركاً له عائلة يعيلها. لكن التعذيب الذي يفوق الاحتمال والإهانات والانتهاكات التي تشعر الضباط بلذة مريضة وتسري عنهم وتكسر الملل والتهديدات وفقدان الزمن والأحبة والأهل والانفصال عن العالم يدفع رفاعة إلى ممارسة لعبة نفسية شهيرة تعد بمثابة دفاع تلقائي عن النفس وطرد للجنون العقلي، وهي لعبة ترتيب أجندة الانتقام «فيما بعد». ولأن فتح باب الزنزانة كان مفاجئاً (كما كان الحدث الثوري بأكمله) فقد ارتبكت قليلاً أجندة رفاعة وجاء تنفيذ بعض بنودها مرتبكاً كما كان التراجع عنها أشد ارتباكاً. ومن هنا يتحول مصطلح «أجندة» في حالة رفاعة إلى مفارقة ملتبسة على رفاعة والقارئ. يحتل الجسد الإنساني المنتهك مكانة رئيسة في «أجندة سيد الأهل»، فهو إما خاضع لتعذيب يهدف إلى محو الآدمية وكسر الإرادة والاذلال، أو هو متلبس بجريمة الالتقاء مع جسد آخر ما يدعو إلى بتره من الحياة تماماً، أو هو جسد تم انتهاكه في الطفولة فيعمل على انتهاك غيره انتقاماً وتعويضاً، أو هو جسد عورة وعليه الاختفاء الكامل امتثالاً لأوامر الرجل، أو هو وسيلة للقضاء على الثوار عبر رصاص القناصة، أو هو جسد محب معطاء يبني ولا يهدم كما حدث بين رفاعة وصفية. يتحدد دور الجسد بفعله وتوظيفه المتباين، فهو المدخل للموت والمدخل للحياة. وأحياناً ما يحمل المدخلين في آن، فكما هدمت روح رفاعة بتعذيبه أعادت له صفية ما فقده ثم قام تايسون بسلبه آخر نفس. كأن روح العمل تعتمد على تحولات الجسد في الزمان والمكان وهو ما يجعل السرد ينفتح على آفاق أرحب من الزنزانة الضيقة، ويفلت العمل من محدودية رصد عمليات التعذيب عبر تصوير أشكال متباينة من انتهاك الروح عبر الجسد في سياقات مختلفة. للوهلة الأولى يظن القارئ أن «أجندة سيد الأهل» عمل يسرد وقائع الثورة المصرية، وذلك بسبب توظيف المتتالية الزمنية التي بدأت في 27 يناير، ولكن بعد التوغل في القراءة يدرك القارئ أن هذه المتتالية ليست إلا الإطار الشكلي الذي يضم مسار الكثير من الشخصيات التي حصلت على مواقع تمكنها من المشاركة في هذه المتتالية الزمنية فكان الجميع في الثورة المضادة ما عدا شهدي وصفية. أما أجندة رفاعة فقد كانت حياته ومماته، لكنه على الأقل لفظ أنفاسه وهو يبتسم.