تشير كل التطورات الى أن إسرائيل مقبلة على المزيد من التشدد والتطرف في ممارساتها ضد الفلسطينيين، وأنها تريد تقوية جبهتها الداخلية بعد فشل عدوانها على لبنان. يحدث ذلك بينما ينشغل الفلسطينيون في الخلافات بين"فتح"و"حماس"، ويخشون أن تتحول إلى حرب أهلية، بسبب رفض الحكومة الفلسطينية الاعتراف باسرائيل والانخراط في عملية التسوية، ورفض"فتح"الاعتراف بنتائج الانتخابات التي أبعدتها عن السلطة التي كانت تتحكم بها منذ سنوات. ومما لا شك فيه أن الخلافات في الساحة الفلسطينية أثرت بشكل كبير على جوهر الصراع العربي الإسرائيلي وهي القضية الفلسطينية وأن إسرائيل تجد نفسها سعيدة حاليا بعد الفشل الذي لحق بقواتها في جنوبلبنان وتتمنى أن تستمر الخلافات الفلسطينية وتؤدي إلى حرب أهلية. وفي المقابل يعمل بعض المسؤولين الفلسطينيين على تأجيج الوضع الفلسطيني وإطلاق تصريحات استفزازية ضد بعضهم بعضاً، بدلاً من العمل على رأب الصدع بين حركتي"فتح"و"حماس". ويبدو أنهم يجدون أن من مصلحتهم الاستمرار في تضخيم الخلافات داخل التنظيمات الفلسطينية للظهور بمثابة المنقذ للوضع المتردي الذي أوصلوا إليه القضية الفلسطينية ويدعون بوجود تيارات مختلفة داخل حركة"حماس"، منها المعتدل والمتطرف، وقيادات الداخل والخارج وكأن تلك جريمة لا تغتفر. وهذا لا يمنع من وجود الحالة نفسها داخل حركة"فتح"، التي وصلت الخلافات فيها إلى حدوث صراعات على السلطة بين بعض القيادات. وظهرت تلك الخلافات منذ دخول السلطة إلى الأراضي الفلسطينية بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو، وتعمقت بين الرئيس الفلسطينيعرفات ورئيس حكومته محمود عباس الذي لم يحتمل البقاء في منصبه واضطر للاستقالة. وكذلك الصراعات بين بعض القيادات الأمنية، التي وصلت إلى حد التمرد على الرئاسة وحدوث اغتيالات بين عناصرها القيادية. ووصلت الخلافات داخل اللجنة المركزية لحركة"فتح"في اجتماعها الأخير في عمان، إلى حد إطلاق الشتائم بين بعض القيادات، مما دفع بالرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى الانسحاب من الاجتماع والعودة إلى رام الله. كما اتخذ فاروق القدومي أحد قياديي"فتح"موقفا معارضا لبعض قادتها المطالبين بضرورة اعتراف حركة"حماس"بإسرائيل، بأن قال في تصريح أخير له في دمشق"إن موقف حماس سليم، لا اعتراف للحركة بإسرائيل ولا اعتراف بالتزامات لم تنفذها إسرائيل". من جهة ثانية ، يبدو أن الولاياتالمتحدة دخلت على الخط في الخلافات الفلسطينية، وتحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس صراحة خلال جولتها الأخيرة في الشرق الأوسط عن وجود تيارين في"حماس"معتدل ومتطرف. ونسيت أن الرئيس عرفات نال جائزة نوبل للسلام مع رابين وبيريز، لمواقفه المعتدلة تجاه إسرائيل، ومع ذلك لم تشفع له تلك المواقف، ومات مسموما بعد حصاره ورفض الإدارة الأميركية التفاوض معه. ولم تكن الولاياتالمتحدة ولا إسرائيل بعيدتين عن دعمهما لأجنحة معتدلة داخل السلطة الفلسطينية ضد أجنحة أخرى لإحداث بلبلة في الساحة الفلسطينية وإضعافها. وتريد الولاياتالمتحدة إحداث انشقاقات في الساحة الفلسطينية تمهيدا لحدوث حرب أهلية، كما فعلت في العراقولبنان. والاستراتيجية الأميركية في ظل المحافظين الجدد تفضل إحداث فوضى في المنطقة بدلا من العمل على تحقيق الاستقرار. وتحاول الضغط على الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي ما زال يصر على عدم السماح بوقوع حرب أهلية. ولكن مشكلة الرئيس الفلسطيني هي في وجود بعض المستشارين والمتحدثين باسمه، الذين لهم أجندتهم الخاصة ويدفعون باتجاه تفاقم الوضع الداخلي الفلسطيني من خلال التصريحات التي يطلقونها ضد مواقف وقيادات فلسطينية أخرى، لأنهم خسروا النفوذ والمكاسب التي كانوا يتمتعون بها عندما كانوا على رأس السلطة، ويخشون أن تُفتح قضايا الفساد التي ستطالهم، ولهذا فهم يعملون على إفشال الحكومة الفلسطينية وتحميلها نتائج الحصار الظالم المفروض على الشعب الفلسطيني، بدلا من تحميل ذلك للاحتلال الإسرائيلي. وحتى في مطالبتهم بتشكيل حكومة وحدة وطنية، فإنهم يأملون المشاركة في تلك الحكومة، مع العلم انه يوجد العديد من القيادات والكفاءات الفلسطينية التي تهمها المصلحة الوطنية الفعلية في جميع التنظيمات الفلسطينية المؤهلة للدخول إلى حكومة الوحدة الوطنية. ولهذا لا بد من استبعاد جميع المسؤولين الذين اتهموا بالفساد من دخول حكومة الوحدة الوطنية المقترحة. ويطالبون حركة"حماس"بالاعتراف بإسرائيل، على أساس أن هذا الاعتراف سوف يؤدي إلى رفع الحصار الاقتصادي عن الشعب الفلسطيني، بل يحملونها مسؤولية الحصار بدلا من تحميلها للاحتلال الإسرائيلي، علما أن الحصار مفروض منذ سنوات قبل وصول"حماس"الى السلطة. ولم يحددوا حدود تلك الدولة التي يطالبون بالاعتراف بها، فهل يوافقون على الحدود التي يريدها أولمرت وتضم الكتل الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية والأراضي التي صادرتها إسرائيل لبناء الجدار العنصري؟ كما أنهم سبق أن اعترفوا بإسرائيل من دون شروط، ماذا كانت النتيجة؟ هل انسحبت إسرائيل من الأراضي المحتلة نتيجة لاعترافهم بها؟ الشعب الفلسطيني الذي يعاني من الحصار وسياسة الاغتيالات والتدمير الإسرائيلية، ما زال صامدا في وجه الممارسات العدوانية الإسرائيلية. ولكنه بلا شك لا يستطيع أن يصمد إلى الأبد أمام الحملات الإعلامية التي يشاهدها يوميا من قبل بعض المسؤولين الفلسطينيين، كأنهم تناسوا أن الاحتلال ما زال يحصد يوميا العشرات من الفلسطينيين، وتزداد المستوطنات وتصادر الأراضي، وتنتهك الحرمات. والأكثر من ذلك أن الخلافات الداخلية طغت على ثوابت القضية الفلسطينية، ولم تعد قضايا اللاجئين والقدس والمستوطنات والاحتلال في سلم الأولويات لدى بعض من يدعي أنه يمثل الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. ما يحدث في الأراضي الفلسطينية من صراعات تجاوز الخطوط الحمراء، وأدخل القضية الفلسطينية في نفق مظلم يخشى في حال استمراره ضياع ما تبقى من القضية الفلسطينية. علما أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان يتباهى بالديموقراطية الفلسطينية، ويصفها بديموقراطية البنادق، عندما كانت المنظمات الفلسطينية تعمل في الدول العربية وتتدخل بعض تلك الدول في القرارات الفلسطينية، مما أدى إلى اتساع الخلافات الفلسطينية. لكن لم تؤد تلك الخلافات إلى حد رفع السلاح بين التنظيمات الفلسطينية سوى مرة واحدة، بعد خروج المقاومة من بيروت في العام 1982 وعودة عرفات إلى المخيمات في الشمال اللبناني، وحدثت اشتباكات مسلحة بين"فتح"ومقاتلي التنظيمات الحليفة لسورية التي رفضت عودته. ومع ذلك، فقد كان الرئيس الفلسطيني السابق يعتقد أن الخلافات في الساحة الفلسطينية أمر طبيعي، وأنها لن تصل إلى حد الاقتتال بين التنظيمات الفلسطينية. لكن هذه الصورة بدأت تهتز في الأشهر الأخيرة بعد نجاح حركة"حماس"في الانتخابات، ووصول العلاقات بينها وبين"فتح"إلى حد رفع السلاح بينهما. وفي هذه المرة، فإن الاقتتال حدث في داخل الأراضي الفلسطينية، من دون تحميل الدول العربية مسؤولية التدخل في القرارات الفلسطينية، وكان بسبب فقدان الثقة بين التنظيمين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية، ما يطرح تساؤلات عن خطورة استمرار تلك الخلافات على مستقبل القضية الفلسطينية. ويبدو أن بعض قيادات السلطة الفلسطينية غير مستعدة لمشاركة الآخرين لها في قيادة الشعب الفلسطيني، وهي لا تريد الاعتراف بالخسارة التي لحقت بها في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وتتصرف وتتدخل في الشؤون الفلسطينية وكأنها على رأس السلطة. ومراقبة تصريحات بعض المسؤولين، وطريقة ردهم على الاقتتال الفلسطيني، يظهر مع الأسف حرصهم على العودة إلى السلطة الفلسطينية أكثر من حقن الدماء الفلسطينية، وذلك عن طريق العمل بشتى الطرق على إضعاف الحكومة الفلسطينية. فمن غير المعقول أن تشارك قوات الأمن الفلسطينية، التي من المفروض أنها موجودة للمحافظة على الأمن وحماية المؤسسات الفلسطينية، في أحداث الشغب والاعتداء على الممتلكات الفلسطينية، التي هي ملك للشعب الفلسطيني وليست ملكاً لتنظيم معين، حتى لو كان في السلطة، بحجة عدم تسلم رواتبهم منذ مجيء"حماس"إلى الحكومة الفلسطينية. وهذا الأمر يعني أنهم يتلقون أوامرهم من قيادات تنظيمية معينة، يهمها إضعاف"حماس"، وخلق نوع من عدم الاستقرار، تمهيدا لإجراء انتخابات تشريعية جديدة ، لن يجعلوها نزيهة بطبيعة الحال. وهنا خطورة الوضع الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، عندما بدأ البعض لا يرى مانعا من استعمال السلاح في حل الخلافات مع الطرف الآخر في الساحة الفلسطينية. علما أنه أصبح في السنوات الأخيرة من اشد المعارضين لاستعمال السلاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويفضل حل الخلافات معها عن طريق طاولة المفاوضات، بينما لا يرى مانعا من استعمال السلاح هذه المرة ضد من يستعمل السلاح في مواجهة إسرائيل. ولهذا، فإن إسرائيل لا تمانع في تهريب السلاح إلى الأراضي الفلسطينية لاستعماله في الاقتتال الفلسطيني، في ظل تصاعد شراء السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة. على الحكماء في الساحة الفلسطينية أن يسارعوا إلى التدخل لوقف المأساة التي تحدث، ومحاصرتها خوفا من اتساعها إلى بقية المناطق، في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، واحتمال شن إسرائيل لعدوان واسع على قطاع غزة. وستتحول المأساة إلى جريمة كبرى بحق فلسطين إذا ما رفع السلاح الفلسطيني في وجه الفلسطيني، بينما الجيش الإسرائيلي يقصف ويدمر ويقتل الإنسان الفلسطيني. * اكاديمي وكاتب اردني