ظلت غالبية البلدان المصدرة للنفط، ولسنوات طويلة، محافظة على معدلات تضخم متدنية، على عكس البلدان النامية الاخرى التي عانت تدهور اسعار صرف عملاتها باستمرار من جراء العجز المتواصل ونقص العملات الصعبة وقصور تغطية عملاتها الوطنية. كان تآكل القيمة الحقيقية لعملات تلك البلدان يشبه الى حد بعيد تآكل اوراق الشجر بعد هجوم مكثف من اسراب من الجراد، بحيث اصبحت عملات البلدان النامية غير النفطية تقدر بالوزن وليس بالقيمة. آثار هذه التطورات التضخمية كانت وخيمة على الاقتصادات النامية وعلى مستويات المعيشة، خصوصاً ان اقتصادات غالبية هذه البلدان تعتمد اقتصاداتها على صادرات المواد الخام الاولية التي تتأرجح اسعارها في الاسواق العالمية. الجديد في الامر، تلك المعدلات العالية من التضخم التي سادت البلدان المصدرة للنفط بعد الارتفاعات الكبيرة للأسعار في السنوات الثلاث الماضية، والتي ساهمت فيها عوامل خارجية ومحلية عدة. أولاً، هناك ارتفاع أسعار السلع المستوردة الناجم عن ارتفاعها في بلد المنشأ، ما يشكل النسبة الاكبر من معدل التضخم السائد في البلدان النفطية، علماً ان غلاء الاسعار في بلد المنشأ ناجم بدوره عن تضاعف اسعار النفط الذي ترك آثاراً تضخمية غير مسبوقة في البلدان الصناعية ذاتها، التي تعتبر المزود الرئيس بغالبية احتياجات البلدان النفطية من السلع والخدمات. العامل الآخر يكمن في الفرص الاستثمارية الكثيرة التي برزت مع ارتفاع اسعار النفط وما تبعها من الاعلان عن مشاريع ضخمة في بلدان المنطقة كافة وتدفق مزيد من الشركات والاستثمارات الاجنبية، ما ادى الى ارتفاع الطلب المحلي على مختلف السلع والخدمات بصورة كبيرة، خصوصاً الطلب على العقارات السكنية والتجارية وارتفاع اسعارها بصورة خيالية خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً. وبما ان منتجات محلية كثيرة تعتمد على المواد الاولية المستوردة من الخارج وعلى مصادر الطاقة النفطية، ارتفعت اسعار هذه المنتجات المصنعة محلياً، ما فاقم معدلات التضخم وارتفاع الاسعار، وشكل العامل الثالث الذي دفع الاسعار صعوداً. هذه وغيرها من العوامل، ادت الى مستويات تضخم غير مسبوقة في البلدان المنتجة والمصدرة للنفط، كما تشير دراسات اقليمية وعالمية عدة صادرة عن مؤسسات مرموقة، كصندوق النقد الدولي والمنظمات الاقتصادية التابعة للامم المتحدة. القضية الاهم في هذا الجانب تتمحور حول طريقة الحد من مستويات التضخم من جهة، وتقليل آثارها الاقتصادية والاجتماعية السلبية على البلدان النفطية من جهة اخرى. إن الاداة المحورية في عملية التحكم هنا تكمن في اسعار المشتقات النفطية داخل هذه البلدان ذاتها. فكلما ارتفعت اسعار هذه المشتقات كلما ساهم ذلك في ارتفاع الاسعار وانخفاض القوة الشرائية للعملات المحلية، والعكس صحيح. فالابقاء على اسعار المشتقات النفطية وخفضها سيساهم مساهمة فاعلة في المحافظة على مستويات تضخم مقبولة في شكل عام، على رغم انها ستظل مرتفعة مقارنة بالعقدين الماضيين. اما الجانب الآخر والذي لا يقل اهمية، فيكمن في ايجاد التوازن المطلوب بين مستويات العرض والطلب، خصوصاً في القطاع العقاري، فهناك زيادة كبيرة في اعداد السكان، سواء المواطنين ام الوافدين. ان مستويات التضخم الحالية في البلدان النفطية تتطلب معالجة لتجنب آثارها المستقبلية. فالنتائج التي تترتب عن عدم معالجة مستويات التضخم المرتفعة تكون سلبية، كما تشير الاوضاع الاقتصادية في البلدان النامية المستوردة للنفط. فعملاتها في انخفاض مستمر تجاه العملات الرئيسة في العالم والقوة الشرائية الداخلية تتراجع باستمرار، ما ينعكس على الاوضاع الاقتصادية العامة، كما ان ذلك لا يشجع على جذب مزيد من الاستثمارات الاجنبية. ان العوامل التي ساعدت على ارتفاع مستويات التضخم، خصوصاً اسعار النفط المرتفعة، ستبقى قائمة في الفترة المقبلة كما يظهر مما سبق. وبالتالي، فان معالجة قضية التضخم والحد منها قدر الامكان باستخدام الادوات الاقتصادية المتوافرة، يعتبر مسألة في غاية الاهمية للاقتصادات النفطية وللاستقرار الاقتصادي في البلدان المنتجة للنفط في شكل عام. * كاتب اقتصادي.